يقف الصخب عند باب المصعد في الطابق السابع من المبنى المطل على قصر العدل، يغرق في الداخل السفير سيمون كرم في قراءاته؛ تسليه أخبار السياسيين، لكن لا ينذر لها نفسه كما يفعل آخرون. العنوان الرئيسيّ هنا اليوم هو «داعش». ونحن على تخوم تحولات دراماتيكية، تبدو الاستحقاقات اللبنانية صغيرة جداً مقارنة بها.
هو يوافق توماس فريدمان القول (في نيويورك تايمز) إن «تفكك العراق وسوريا يغير المعادلة التي حكمت الشرق الأوسط قرناً كاملاً». لا يحصل ذلك لمصلحة إسرائيل بالضرورة، فها هو وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر يتوقع قبل مدة أن لا تكون إسرائيل موجودة إذا استمر نمو المجموعات الراديكالية على ما هو عليه منذ عامين. ولا أحد يملك، بحسب كرم، تصوراً لما ستكون عليه الأوضاع الإقليمية قبل بضعة أيام فقط.
أسوأ ما في اللعبة الحالية أن بعض أنصار النظام السوري يصدقون أن «داعش» صنيعة النظام السوري وحلفائه، كما يصدق بعض أنصار السعودية أن «داعش» صنيعة السعوديين والأميركيين. أما البعض الآخر فيفترض أن داعش تأتمر بأوامر خصمه ويمكن الخصم أن يتحكم بجدول أعمالها. واقعياً، تثبت كل المعطيات منذ أحرق بو عزيزي نفسه أن مختلف الأفرقاء من الأميركيين إلى السوريين، مروراً بالسعوديين، دائماً يلحقون الأرض (القاعدة) ويحاولون تعديل مساراتها بما يتلاءم مع مصالحهم.
قبل سطوة العثمانية ثم الانتداب الأوروبي فالديكتاتوريات، كان المشهد الشاميّ كما يصوره المؤرخ كمال الصليبي في كتابه «بلاد الشام في العصور الإسلامية الأولى» مطابقاً للمشهد السوري الحالي في مناطق نفوذ الإسلاميين: كل يوم أمير جديد وتنظيم، غدر وتقاتل وصراعات ريفيّة ـــ مدنيّة وقبليّة ـــ عشائرية وعائلية ومذهبية وإثنية وشخصية. قمعت الحملات الصليبية الفوضى نحو خمسين عاماً، حتى ظهر نور الدين زنكي الذي عبّد طريق الانتصارات أمام صلاح الدين الأيوبي. ويحلو لبعض «هواة» الإسقاطات التاريخية مقارنة أمير داعش، أبي بكر البغدادي، بزنكي. رقعة داعش الجغرافية الحالية هي رقعة زنكي ولها أهمية مفصلية في التاريخ الإسلامي: تدرج زنكي من مقاتل في جيش الخليفة العباسي إلى والٍ على الموصل. حاصر حلب ليشرع في التمدد نحو دمشق وفلسطين، انطلاقاً من حلب والموصل. وأهم إنجازاته فتح الرها أو ما يعرف اليوم بسهل نينوى (في العراق)، واعتبرت هزيمة قائدها جوسلين أول انتصار يحققه المسلمون على الصليبيين. تماماً كما اعتبر سقوط الموصل (ومعها ما كان يعرف بالرها) أول انتصار لداعش في مدينة حيوية، لا مجرد قرى ريفية أو مساحات صحراوية.
تزامن بروز داعش مع ظهور مجموعات أخرى منبثقة من القاعدة في كل من اليمن والجزيرة العربية ومالي والجزائر وسيناء؛ لا تفصل التقارير الغربية الصحافية واحدة عن الأخرى: هم جيل القاعدة الجديد. اكتفى البغدادي بالرسائل الصوتية، متكلاً في تنظيمه على وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة مثل تويتر ويوتيوب لتجنيد الداعشيين وقيادتهم، مركزاً على استقطاب جيل جديد من المقاتلين من شمال أفريقيا وأوروبا والشيشان. في مكتبه المكتبة، يقف رئيس الرابطة السريانية حبيب افرام فوق خريطة العراق، مشيراً إلى أهمية الموصل الجغرافية والسياسية بين «كانتونات» العراق، وبالنسبة إلى سوريا أيضاً. كان ميزان القوى الإقليمية وما زال يميل بفارق كبير لمصلحة إيران، يقول افرام. كانت حسابات الإيرانيين، أن السعودية أخطر أدوات الولايات المتحدة في المنطقة، فيما علاقتهم بالمجموعات التكفيرية لا تتسم بالعداء المطلق، رغم الخلاف العراقيّ الدموي الكبير. وكان الجيل الإيراني الجديد من المقاتلين الدبلوماسيين الديناميكيين يتسلى بالفشل السعودي من اليمن إلى بيروت، مروراً بالعراق وقطر وسلطنة عمان والكويت وسوريا طبعاً. فجأة خرج مقاتل آخر ليحاول قطع طريق النفوذ الإيراني في مكان ما. وهو نجح في زعزعة استقرار النفوذ الإيراني. يتساءل افرام: لماذا يتقدم تنظيم موغل في راديكاليته الكانتون السنيّ؟ كيف يصمد الجيش السوري ثلاث سنوات، رغم التعبئة المذهبية والشح المالي وأكثريته السنية والعروضات السخية للمنشقين، ويتشتت الجيش العراقي رغم رفاهيته المالية وأكثريته الشيعية؟