ملّ اهل الهرمل من سماع عبارة «منطقة محرومة منذ الاستقلال حتى اليوم»، لا شك أن المنطقة تعاني تاريخياً من التهميش، إلا ان السمة الابرز هي غياب المبادرة لدى السلطات المعنية، وتجاهلها للعديد من الدراسات التي «وضعت الاصبع على الجرح»، وأهمها الدراسات التي اجراها فريق ايطالي حول بيئة نهر العاصي.
الحق هذه المرة ليس على الطليان، بل على البلديات التي لم تبادر الى تلقف التوصيات التي تضمنتها هذه الدراسات، وعلى وزارة الزراعة التي لم تنصف الهرمل رغم ان ابن المنطقة على رأس الوزارة، مروراً بوزارة الطاقة والموارد المائية التي بشّرت المنطقة بقرب بناء السد، رغم ان الدراسة الايطالية تؤكد ان السد هو نعمة ونقمة على الهرمل وأهلها، والتي لا تعير اهتماماً للتعديات المزمنة والمستحدثة على مجرى النهر الذي يعتبر الأهم في لبنان، لجهة إمكان الاستفادة منه في تنمية هذه المنطقة بيئياً وسياحياً.
فقبل ثلاث سنوات، أنجزت المنظمة غير الحكومية الإيطالية «موفيموندو» دراستين بيئيتين عن نهر العاصي، بتمويل من الحكومة الإيطالية، في إطار «مبادرة الطوارئ لإعادة التأهيل والتوظيف والخدمات والتطوير في لبنان ـــــ روس». وأجريت الدراستان بالتعاون مع شركة «هاليوس» الاستشارية، من خلال مشروع «دراسات التقويم والإدارة البيئية الهادفة إلى حماية منطقة نهر العاصي وتنميتها المستدامة».

ركزت الدراسة الأولى على «الخطوط التوجيهية المقترحة للإدارة البيئية والتخطيط لاستثمار الأرض»، فيما عالجت الدراسة الثانية «الأثر البيئي لتربية سمك الترويت في العاصي». الأسباب الرئيسية للتدهور البيئي لنهر العاصي التي حدّدتها الدراستان الإيطاليتان لا تزال على حالها: الاستثمار غير الملائم للمصادر الطبيعية، مستوى الوعي البيئي المتدني، النقل غير الملائم للمعلومات والتقنيات، عدم إعطاء الأولوية للقضايا المتَعلّقة بحماية التنوع البيولوجي، وضعف وقلة التطبيق التشريعي وخطط المراقبة. في الدراستين خطط مفصّلة لحماية وتحسين المصادر والأصول البيئية لمنطقة حوض العاصي، وذلك من خلال معالجة قضايا مهمة، منها جمع النفايات الصلبة، مياه الصرف الصحي، الزراعة، البناء، مع تركيز على نوعية المياه وعلى تربية سمك الترويت. إلا أن أحداً، على المستويين الحكومي والمحلي، لم يحرّك ساكناً لتنفيذ التوصيات القيمة التي خلصت اليها الدراستان.
ولتكوين صورة عن الوضع البيئي ومصادر التلوث، نفذت الدراستان عملية رصد بيئي عبر استعمال البيانات الكيميائية والفيزيائية والبكتيريّة ومقارنتها، بالإضافة إلى عناصر الحياة النباتية والحيوانية، في نهر العاصي، وإظهار صورة للحالة البيئية التي تعكس بالتالي أثر التدهور البيئي. كما جرى تقويم لمستوى التلوّث الحالي الذي يؤثّر على النظام البيئي المائي، من خلال جمع دوري للبيانات البيئية والبيولوجية للنهر، بالإضافة إلى دراسة قدرة النظام البيئي نفسه على التخفيف من حدّة هذه التأثيرات.

ترويت قوس القزح

تمثل تربية الترويت في منطقة سهل البقاع 90% من الإنتاج اللبناني. الفصيل الأكثر شيوعاً في مزارع الترويت في لبنان، كما في سائر أنحاء العالم، هو ترويت قوس القزح Oncorhynchus mykiss. ويقدّر الإنتاج السنوي لسمك الترويت في الهرمل بنحو 1.700 طن. وقد خسرت المزارع 20% من الإنتاج خلال عدوان إسرائيل في تموز ٢٠٠٦ ونحو 15% بعد الفيضان الشهير في أيار عام ٢٠٠٨.
يمتلك نوع قوس القزح عادات غذائية ضوارية، وهو يحتاج إلى مياه نظيفة وشفافة، للحصول على رؤية واضحة للصيد، وباردة نسبياً ومؤكسدة وخالية من المواد الملوثة. تبدأ
مشاكل مزارع الترويت في البقاع من مرحلة تفقيس البيوض ولا تنتهي مع تصريف الإنتاج. ففي وقت تركز فيه إنتاج الترويت في لبنان في منطقة الهرمل، منذ ما يزيد على عقدين، لا تزال وزارة الزراعة توكل تطوير تربية الأسماك النهرية في البقاع إلى مركز عنجر، البعيد نسبياً عن مزارع الترويت في العاصي. أما المصنع الذي بنته الوزارة في منطقة الهرمل وجُهّز بأحواض لتفقيس البيض، فلم يباشر العمل به حتى الآن.
أما معمل إنتاج الأعلاف الجاهزة للأسماك وتوزيع هذا الإنتاج على المربين بسعر الكلفة، فليس أفضل حالاً. المعمل الذي أنشئ قبل نحو ست سنوات لا يزال متوقفاً عن العمل، رغم توفير التمويل المطلوب لذلك من قبل وكالة التعاون الألمانية (١٦٤ ألف يورو).
ويبيّن تقرير «نظرة عامة على قطاع التربية المائية الوطني» الذي أعدّه إبراهيم الحاوي عام ٢٠٠٥، أن هناك عملاً كبيراً يجدر القيام به في ما يتعلق بالتخطيط والتدريب، ٕاضافة إلى تكنولوجيا النقل، وذلك رغم المحاولات الحثيثة لنشر المعلومات والتكنولوجيا بين المربين. ويخلص التقرير إلى أن مركز عنجر يملك تجربة محدودة في علم المرض السمكي، ناتجة من التأهيل الذاتي للتقنيين في المركز ونشاطاتهم الخاصة.

تفقيس البيض ومطاعم السوشي


تظهر الدراسة الإيطالية أن قطاع تربية الترويت، يشتري بيضاً مخصّباً في الخارج، وهو يستورد من دول عدة كالدنمارك وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. تتضمن عملية الاستيراد 15 مليون بيضة سنوياً لمردود يصل إلى 225.000 دولار سنوياً. ويُجلب البيض الجنيني بين تشرين الأول وآذار، وهناك ثلاث فقاسات خاصة في الهرمل، وثلاث أخرى في بلدة الشواغير. ويجري تفقيس 15 مليون بيضة لإنتاج الترويت الصغير، وينمو نحو 70 إلى 80% منها، وفقاً لما يقوله المربّون (12 مليون حيوان).
تجري تربية الترويت الصغير وتغذيته بالإجبار حتى يصل إلى الحجم التجاري، وهو 1 كلغ (12 إلى 14 شهراً). ويفضّل المربون استخدام نوعية تغذية مكفولة، مع نسبة عالية من كثافة البروتيين. وتفيد الدراسة الإيطالية بأن المربين الكبار في منطقة الهرمل هم الذين يستوردون معظم الطلبيات ويعيدون بيعها للمربين الصغار بسعر أغلى.
محمد علي عميري، مدير شركة «لاترويت» لتدخين السمك، أكد لـ«الأخبار» أن المنشآت التي التزمت بالتوصيات التي خلصت إليها الدراسة الإيطالية لا تتجاوز 10% من إجمالي المزارع. ويرى أن استبدال العلف المخصّص للأسماك بأمعاء الدجاج يمثّل المصدر الرئيسي والأكثر خطورة لتلوّث مياه النهر وجودة الإنتاج. ويشير إلى أن استخدام أمعاء الدجاج علفاً لتغذية الأسماك تحوّل إلى خطر داهم؛ إذ بات من الممكن ملاحظة ذلك بالعين المجرّدة من خلال المواد الدهنية التي تطفو على وجه المياه في العديد من أقسام النهر.
يدق عميري ناقوس الخطر بسبب تراجع تصريف الإنتاج إلى سوريا بعد اندلاع الأحداث منذ عدة أشهر. ويلفت إلى أن الإنتاج النظيف، بنوعية جيدة، يُصرَّف في السوق الداخلي وتتهافت عليه المطاعم ويباع فيليه ومدخناً. ويضيف: «بعض المربين ينتجون ترويت السلمون، مستخدمين في المرحلة النهائية للتغذية الإجبارية علفاً يتضمن الأستكسنتين والكنتكسنتين، وتمنح هذه المنتجات لحم الترويت حدة ألوان السلمون المقدّرة جداً في السوق التجاري، وقد دخلت بقوة إلى مطاعم السوشي في لبنان محل السلمون، وهي ذات نوعية ممتازة ومرغوبة من الزبائن».

الأثر البيئي لتربية الترويت

تفيد الدراسة الإيطالية بأن تربية الأجسام المائية بأنماط تكنولوجية كثيفة، تظهر مشاكل بيئية على النظام البيئي للماء عبر المزارع المتصلة به. من المعلومات الأولية المتوافرة في دراسة المراقبة البيئية في المشروع، لوحظ غنىً في الغذاء في المياه التي تخرج من منشآت تربية الترويت. لهذا السبب، يمكن تعريف النشاطات الصحية للسمك بأنها سبب مهم لظاهرة تكدّس المواد العضوية التي تؤثر على نوعية النظام البيئي لنهر العاصي. وقد أثبتت هذه المعلومات عبر الدراسة التي جرت على تجمعات الرخويات الكبرى المائية، وسجلت تبدلاً كبيراً في الأنظمة البيئية في المحطات الواقعة من أدنى جسر الهرمل. في هذا القسم من نهر العاصي، المتصل ببلدية الشواغير، نجد أعلى كثافة لوجود منشآت وأكبر حجم تحميل إنتاجي.
وتبرز الدراسة أن نشاط النهر تغير كثيراً بسبب وجود مناطق زراعية ممتدة على الأطراف المطلة للنهر. وحدثت كذلك تبدّلات كبرى للضفاف في هذه المنطقة، وذلك لتحويل تدفق مياه الري والتربة المائية، وصولاً إلى جعلها صناعية بوجود العديد من المطاعم المتلاصقة مع مزارع المنشآت. وتخلص الدراسة إلى أن القيمة المتوسطة غير المرتفعة المسجلة على طول ضفاف نهر العاصي، ترتبط بالضغط البشري الكثيف الذي يؤثر على النظام البيئي للنهر.
وتوصي الدراسة بحماية مشدّدة للجزر الطبيعية القليلة التي توجد فيها الأشجار والنباتات المظللة، وقد جرى التعرف إليها في كامل الجزء الخاضع للتحليل من النهر. وتقول الدراسة «إن أهمية بقاء هذه الأنظمة البيئية للتنوع البيولوجي المرتبط بمناطق النهر مؤثرة جداً. ولهذه المناطق دور كبير في إبقاء القدرة التطهيرية لمجرى الماء كما تظهر عملية القياس التي أجراها خبراء إيطاليون في المنطقة المحاذية لهذه المواقع الطبيعية».
في المقابل، ينتج من تربية الترويت أثر واضح على النظام البيئي للمياه بسبب المياه المستخدمة في المزارع. فزيادة الغذاء التي تعود إلى الغذاء الإجباري غير المستهلك وبقايا الأسماك، يمكن أن تُحدث في آخر المجرى تبدلات بيولوجية وكيميائية وفيزيائية كبرى. وتخلص الدراسة إلى أن إدارة صحيحة للمنشآت، متوافقة مع التنظيمات العالمية المستخدمة، تستوجب تدفقات حيوية دنيا ووسائل تقنية، أهمها مصفاة ميكانيكية وأحواض لمعالجة مياه المزارع المتدفقة.
ولاحظت الدراسة في المناطق العليا للنهر إنشاء وتوسيع لمزارع الترويت في السنوات الأخيرة، لم يؤمّن لها أي نظام لمعالجة المياه. وهناك أيضاً عادة متبعة تربط بين عمليات التنظيف وإفراز كميات من رواسب المزارع في النهر. ومن الأبحاث التي تناولت المميزات التقنية والإدارية للمزارع، أوصت الدراسة بتقسيم المنشآت إلى صغيرة ومتوسطة، وهي الأكثر كثافة (96%)، ومنشآت كبرى (5%).

نظام مراقبة وبنك معلومات

تنتج تربية الترويت في نهر العاصي بقايا ملوّثة، ما يؤدي إلى آثار تولّد حالة من التدهور على طول ضفاف النهر. الأهمية الاقتصادية لمزارع الترويت هي سبب تماسك هذا النشاط مع الوقت، ما ضخّم الأثر على الأنظمة البيئية للمياه. لذلك، توصي الدراسة بتوسيع اختيار البنى التحتية؛ لأنها تؤدي إلى نزع كمية كبيرة من الرواسب الناتجة من مزارع السمك التي تستخدم أنظمة ميكانيكية لا تنزع الأجسام الصلبة المعلقة ورواسب الأحواض أو التطهير النباتي. وتوصي كذلك بإنشاء نظام مراقبة على طول مدى النهر. وبهدف الحصول على مظهر مقبول وفيه صدقية لظاهرة التلوّث البيئي، ترى الدراسة أنّ من المهم الاستمرار في مراقبة التأثير البيئي على منشآت تربية الترويت واستكمال التحليل من خلال عيّنات مائية ورواسب موجودة في مجرى نهر العاصي. وللحصول على معلومات أكثر دقة في ما يتعلق بظاهرة التلوّث، من المهم إقامة شبكة مراقبة مفصّلة تسمح بالحصول على المعلومات الأساسية عن نوعية الجسم المائي في العديد من أقسام النهر، خصوصاً التي تتركز فيها تربية الترويت، وإنشاء بنك معلومات قادر على تمييز تطور نظام النهر ونوعية المياه والرواسب واستجابة النظام المائي مع تأثير المزارع.
خطوات افتراضية عديدة تقترح الدراسة أن تؤخذ على مستويات مختلفة من التدخل، وخاصة: المبادرات على مستوى الغذاء مع استخدام الغذاء الإجباري الذي يهضم بسرعة والذي يتألف من مكونات هي على مستوى عالٍ من الهضم، وقادرة على التقليص من كمية الكاتابوليت للأزوت والفوسفور، وعلى تقليص الغذاء الذي يولد بقايا، ووضع أنظمة فاعلة للوقاية ومعالجة الأمراض، ونزع الأجسام الصلبة العالقة التي تنتج أساساً من رواسب الغذاء والبراز مع مساعدة مصفاة ميكانيكية دورية وأحواض.



مؤسسة تنظيم الاستثمار


تقترح الدراسة الإيطالية تنظيم العمل في منطقة الهرمل مِن قبل مؤسسة إدارية لتنظيم استثمار الأرض في نهر العاصي، مكَوّنَة من السلطات المحليّة والحكومية وبدعم علمي لمعاهد البحوث، المسؤولة عن إعداد خطة التنظيم الإدارية وتبنيها وتطبيقها. تأخذ هذه المؤسسة على عاتقها تعريف الضغوط البيئية ومراقبتها، وتكون وظيفتها الأساسية تقديم الدعم العلمي للتشريعات التي ستنظّم استثمار الموارد. علاوة على ذلك، يجب أن تمتلك هذه المؤسسة القدرة على القيام بدوريات ونظام مراقبة للمنطقة، ومتابعة تطبيق القواعد الفعّالة التي ستصدر أو السارية المفعول ولا يجري تطبيقها حالياً.
تقترح الدراسة هيكلية إدارية للمؤسة مؤلفة من أمين عام وثلاث لجان مؤسساتية وفنية وإدارية. وتتألف اللجنة المؤسساتية من وزارات البيئة والزراعة والصحة والطاقة واتحاد البلديات والقائمقام وبلديتي الهرمل والشواغير. الهدف العام من هذه المؤسسة، إيقاف النزعة الحالية المؤدية إلى زيادة الاستغلال السيئ للموارد النهرية، وتطبيق القرارات التقنية والسياسية لمنع نَقْص تدفق النهرَ، ونظام مراقبة لتطبيق القواعد التي ستصدرها مؤسسة تنظيم الاستثمار، والقواعد السابقة لانشاء المؤسسة، والتي لا تطبق حالياًً.



مخاطر سد العاصي

مطلب أساسي لمنطقة الهرمل هو إعادة إطلاق العمل ببناء سدّ على نهر العاصي المتوقف منذ ما يزيد على خمس سنوات؛ لأنه يوفّر ما يقارب 80 مليون متر مكعب من المياه، وريّ نحو 7000 هكتار من الأراضي الزراعية في مناطق الهرمل والقاع ورأس بعلبك. في المقابل، تظهر الدراسة الإيطالية أن النظام البيئي لنهر العاصي موضوع تحت ضغوط كبرى، مقارنة مع آثار تربية الترويت. كما أن بناء السد الواقع قرب النبع في منطقة رأس العاصي، يمثّل عاملاً خطيراً على النظام البيئي، لما له من تأثير كبير؛ إذ إنه سيؤدي إلى انخفاض ملحوظ في قدرة النهر، ويمكن أن يحدّد كثافة عالية من المواد الملوّثة مؤثرة على التجمعات الإحيائية. وتخلص الدراسة إلى أن إعادة جودة المياه تدريجاً إلى مستواها الطبيعي، ستكون حاسمة لحماية المصالح الاقتصادية المركزة حالياً. وان الاساس هو نشر الوعي للاقتناع بـ «المعادلة» التالية: التدهور البيئي = خسائر إقتصادية إلى أصحابِ الحصص، السكان ومستعملي النظام البيئي للنهر وبشكل خاص مربي الأسماك ومالكي المطاعم.
ويقف العديد من البيئيين في لبنان ضد مشاريع انشاء السدود المكشوفة ويحذرون منها. ومن المعلوم أن «اعتماد سياسات ضبط الطلب بدل زيادة السدود، والتخزين الجوفي بدل التخزين السطحي. ووقف الهدر في الشبكات واستخدام العدادات بدل العيارات وضبط سرقة المياه الجوفية وضبط شركات التعبئة والاتجار بهذا المورد الثمين، واعتماد الأساليب الحديثة في طرق الري الموفرة، وضبط الهدر في قطاعي السياحة والصناعة، هي أبسط قواعد الاستراتيجيات الوطنية البديلة عن بناء السدود المكشوفة والمكلفة».