بالتوازي مع كل جولة عنف تطلقها إسرائيل في الأراضي المحتلة، يعود الحديث عن الضغط الذي يمارسه اليهود في أقوى دولة في العالم. الجولة الحالية أسقطت حتى اليوم أكثر من 170 شهيدا في غزة، حتى كتابة التقرير، وخلالها وجه الجيش الإسرائيلي ترسانته صوب 1200 هدف في «القطاع السجن». وكالعادة، يتميز الموقف الغربي ـ من الإعلام إلى أروقة القرار ـ بانحياز واضح لمصلحة «الدولة الديموقراطية» في مواجهة «الإرهابيبن».
يعود هذا التأثير الهائل والمستدام إلى تغلغل عميق للنفوذ اليهودي في المجتمع الأميركي؛ نفوذ، وإن انكفأ على المستوى السياسي المباشر في بعض الأحيان، إلا أنه يبقى ثابتاً لكونه نتيجة عقود طويلة من البناء والتطوير في الميادين الأساسية.
يُفضل يهود المجتمع الأميركي، كغيرهم من الأقليات التي اضطهدت تاريخياً، التعاطي مع أبناء دينهم في المعاملات التي يعدونها أساسية لتسيير شؤونهم الشخصية، أو المساهمة في تحقيق ما يعدونه مصلحة الجماعة. هكذا، مع سقوط آخر سيناتور يهودي من مجلس الشيوخ الشهر الماضي، يسود شعور باليأس لدى بعض تلك الشريحة.
إيريك كانتور، القائد السابق للغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، كان السياسي اليهودي الأعلى رتبة في تاريخ الولايات المتّحدة، على ما تفيد به صحيفة «نيويورك تايمز»، في تحقيق نشرته في نهاية الأسبوع، عن علاقة اليهود بالحزب الجمهوري.
تنقل الصحيفة، وهي يهودية الهوى أيضاً، عن أحد المتمولين اليهود الناشطين في دعم الجمهوريين قوله: «في بعض الأحيان، يرغب اليهودي بالتوجه إلى مجلس الشيوخ والتواصل مع شخص يهودي آخر».
لكن قصة اليهود مع السياسة الأميركية وتأثيرهم عليها، وتحديداً على السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، أبعد من التمثيل السياسي المباشر؛ إنها قصة السيطرة عبر المفاتيح الاجتماعية الأساسية.
على الرغم من أن اليهود يمثلون بين 2% و3% فقط من سكان الولايات المتحدة، إلا أنّهم يمثلون 25% من النخبة العاملة في عالم الصحافة والنشر؛ أكثر من 17% من قادة المنظمات غير الربحية التي تبغي المصلحة العامة؛ وأكثر من 15% من كبار الموظفين في الخدمة العامّة.
هذا الحضور النافذ ثقافياً واجتماعياً تعزّز خلال العقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، خلالها مُنح اليهود «الأرض الموعودة»، بالتوازي مع تطوير نفوذهم في الولايات المتّحدة؛ نفوذ بدأ بالازدهار منذ بدايات القرن التاسع عشر.
يذكر سيمور ليبست وإيرل راب، في كتابهما «اليهود والمشهد الأميركي الجديد»، أنّه خلال العقود الثلاثة قبل الألفية الجديدة، مثّل اليهود 50% من نخبة المثقفين في الولايات المتّحدة، و20% من الأساتذة في الجامعات الرائدة،40% من المدراء والشركاء في شركات المحاماة الكبرى في نيويورك وواشنطن.
كلّ ذلك فضلاً عن سيطرة نخبة يهودية على عالم المال والأعمال وتوجهات وول ستريت. كانوا أبرز المستفيدين من موجة الدمج وإعادة الهيكلة خلال الثمانينيات، وثبتوا قبضتهم على وول ستريت إلى حين انهيارها عام 2008، وانكشاف المخططات الاحتيالية المشرعنة و«الخارجة على القانون»، أبرزها حيلة الـ65 مليار دولار التي ادارها برنارد مادوف؛ اليهودي، الذي اتهم أيضاً بتهريب جزء من الاموال التي نهبها إلى إسرائيل لحظة شعوره بقرب ساعة السجن.
هذه ليست فقط معدلات وأرقاما، بل هي مسوغات سيطرة الأخطبوط اليهودي على الغرف الخلفية للسياسة الأميركية، والأهم على الإعلام والترفيه للتمكن من جعل الحلم اليهودي جزءاً من الحلم الأميركي الذي كان الأقوى في العالم خلال القرن العشرين.
صحيح أن النشر والصحافة ميدانان أساسيان للتأثير وخلق الضغط، إلا أن حلبة الإبداع اليهودي في أميركا تبقى التلفاز والسينما. في المجال الأول، يُلاحظ أن الشبكات التلفزيونية الثلاث الكبرى يديرها يهود، وفي الثاني يُشار إلى أن الاستديوهات الأربعة العملاقة يديرها يهود.
نتج من تلك السيطرة هذا الرقم المخيف: 60% من المخرجين والكتاب والمنتجين المساهمين في أهم 50 إنتاجا سينمائيا بين عامي 1965 و1982، كانوا، من دون مفاجأة، يهوداً.
أكثر من نصف المدرجين على لائحة «أقوى الأشخاص في العالم»، التي أعدتها مجلة «فانيتي فير» قبل ثماني سنوات، كانوا يهوداً. وكان لهذا الرقم دلالات كثيرة في تلك المرحلة، التي وصل فيها باراك أوباما إلى البيت الأبيض؛ إذ كان وصوله مؤشراً إلى إمكان حدوث تغييرات في السياسة الخارجية الاميركية، وحتى في علاقة المؤسسة السياسية مع الحضور اليهودي الضئيل ديموغرافيا، لكن النافذ اقتصادياً واستراتيجياً.
60% من يهود أميركا يؤيدون سياسات البيت الأبيض تجاه إسرائيل
بالفعل، بدا خلال السنوات الماضية أن هناك نوعا من الجفاء بين تل أبيب وواشنطن، غير أنّ الأرقام تتحدث لغة مختلفة كلياً. فبالاستناد إلى دراسة معمقة أعدها مركز Pew عام 2013 ـ تقوم على استطلاع للرأي العام ـ تبين أن 60% من يهود أميركا يؤيدون سياسات البيت الأبيض تجاه إسرائيل، والنسبة نفسها تؤيد سياسات الرئيس بارك أوباما تجاه الاقتصاد. أما سياسة أوباما تجاه إيران، فقد حصدت تأييد 52% من يهود أميركا، لحظة إجراء استطلاع الرأي، أي قبل عام بالتمام والكمال (طبعاً التقويم هنا هو قبل الاتفاق المؤقت الذي وُقع أخيراً، والذي قد يمهد لتسوية طويلة الأجل).
يُشار هنا إلى أن دعم يهود أميركا لأوباما هو أعلى من نسبة التأييد في أوساط الأميركيين عموماً، التي تبلغ 44%، 41% و45% للقضايا الثلاث المذكورة على التوالي.
هذا الدعم اليهودي للديموقراطيين ليس جديداً. بحسب معلومات نشرتها صحيفة «جيروزاليم بوست» عام 2000، فإنّ نصف الأموال التي تلقتها حملة الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون، في معركة إعادة انتخابه عام 1996 تبرع بها اليهود.
إذاً، بخلاف الاعتقاد السائد، فإن اليهود، بغالبيتهم، ليسوا أقلية دينية متطرفة في الدولة المدنية الأميركية. أكثر من 70% منهم ديموقراطيون، ومعظمهم يعدون أنفسهم ليبراليين. أكثر من ذلك، فإنّ غالبية اليهود الأميركيين يظهرون نزعة اجتماعية تعاضدية على مستوى المجتمع برمته، إذ يفضل 54% منهم دوراً أكبر للدولة في إدارة الاقتصاد، وتقديم خدمات إضافية؛ وذلك في مقابل نسبة 38% تفضل العكس.
لكن أن تكون هذه الجماعة بغالبيتها ليبرالية، لا يفرض بالضرورة وعيها الشفاف للقضايا الحقوقية حول العالم. وبالتالي، فإنّ الأسئلة الأساسية الخاصة بمواقف ورؤية اليهود لا تعود محيرة. أبرز تلك الأسئلة: لماذ الصمت عن كل الظلم الذي يُرتكب في فلسطين المحتلة؟ ولماذا غض الطرف عن سيل الدماء حالياً، وطوال العقود السبعة الماضية؟