إنه الكابوس الأسوأ لمديري اللعبة المالية والنقدية اللبنانية: أن يتراجع نمو الودائع في الجهاز المصرفي دون المستوى الذي يُمكن من «تمويل القطاع الخاص وتأمين الاحتياجات التمويلية للدولة»، وفقاً للعبارة الشهيرة المعهودة. بحسب آخر البيانات، يبدو أن الكابوس سيحكم الليالي اللبنانية المقبلة، ولكنه لن يقضّ مضاجع المصرفيين، لأن المواطن هو من سيتحمل الكلفة في نهاية المطاف من خلال التلويح الدائم برفع سعر الفائدة.
بالاستناد إلى أرقام مصرف لبنان، لم تنمُ الودائع المتدفقة إلى الجهاز المصرفي إلا بنسبة 2.6% خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام. صحيح أن هذا الرقم إيجابي _ إذ إن الودائع الإجمالية زادت (بطريقة أو بأخرى) 2.6 مليار دولار _ غير أنه يُعادل نصف المعدل المسجل خلال الفترة نفسها من العام الماضي وأدنى بنسبة 40% تقريباً مقارنة بالمعدل المسجّل خلال السنوات الخمس الماضية.
ولكن الأهم في دراسة هذا المؤشر هو مقارنته بالمعيار المحدّد لتحقيق «النمو المناسب»، إذ إن مصرف لبنان يُشدّد على أهمية أن تنمو الودائع بنسبة 6% بالحدّ الأدنى سنوياً لكي تبقى البلاد قادرة على تأمين تمويل احتياجاتها؛ تمويل يصل في نهاية المطاف إلى جيب المصارف نفسها التي تُعدّ الدائن الأول للدولة والمستفيد الحقيقي من مديونيتها، في إطار الدورة الشريرة التي بدأت في التسعينيات.

المصدر الوحيد
لنمو الودائع في الأشهر الخمسة الأولى كان محلياً
على أي حال، لماذا تَراجع نمو الودائع؟ وماذا يعني هذا النمط في المدى المتوسط؟
المصدر الوحيد لنمو الودائع خلال الفترة المذكورة كان محلياً، حيث ارتفعت ودائع المقيمين بنسبة 0.7%، في الوقت الذي بقيت فيه ودائع غير المقيمين والأجانب ثابتة. قد يعكس هذا الوضع تخوفاً معيناً لدى المغتربين والأجانب من الأوضاع اللبنانية والأجواء الإقليمية؛ تدفعهم هذه الهواجس إلى الإحجام عن إرسال الأموال إلى الجهاز المصرفي اللبناني.
وتأتي هذه النتيجة بعد تحذيرات متزايدة من الخبراء والمؤسسات الدولية من إمكان ركود تدفق ودائع غير المقيمين وحتّى تراجعها.
ليس في الأمر تهويل، ولكن إذا استمرّ النمط عند المستوى المسجل حتى نهاية العام الجاري، فإن مشكلة تلوح في الأفق، تتمثّل أساساً في العودة إلى الفوائد الخياليّة، وإلى ترعزع سعر صرف الليرة إذا أردنا تخيل سيناريو متطرف.
قد تنعكس الصورة كلياً خلال الفترة المقبلة، التي عادة ما تُسجّل فيها النسبة الأكبر من النشاط الاقتصادي سنوياً. وبالفعل، يلاحظ الخبراء أن الودائع نمت بواقع مليار دولار في حزيران الماضي، بعدما كان معدل النمو الشهري 0.7% في أيار، وبعد انطلاقة عام عصيبة حيث تراجعت الودائع بنسبة 1.3% في كانون الثاني. هل تعوّض المرحلة المقبلة الأداء الضعيف المسجّل حتى أيار؟ علماً بأن التوقعات تفيد بأن هذا العام سينتهي على نمو في الودائع يصل الى 6%.
السؤال برسم التطورات لبنانياً وإقليمياً. ولكن الأكيد هو أن الأداء المصرفي المتواضع يأتي بعدما هشمت الاضطرابات في البلدان المجاورة مخططات النمو المرتقب من وراء التوسع الإقليمي. والأهم هو أنه يُسجّل في وقت وُضع فيه النقاش الاقتصادي الاجتماعي الأهم في البلاد _ وقلبه سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام _ في ثلاجة التوافق السياسي. فتراجع الودائع قد يُشكّل دافعاً للحجة القائلة بأن البلاد على كف عفريت مالياً ونقدياً، ويجب تأجيل إعطاء الفئات المهمشة حقوقها.
بيد أن الرد على التهويل ليس معقداً. فاللافت في الأداء المالي هو أنه رغم تراجع نمو الودائع، سجّلت القروض الممنوحة للقطاع الخاص نمواً بنسبة 1.6%، أي أعلى بنسبة نقطة مئوية عن العام الماضي. وهنا يلاحظ قسم الأبحاث في بنك عوده أنّ «الجهاز المصرفي يحافظ على النوعية الملائمة لأصوله، وذلك نظراً إلى عدم تدهور مؤشر القروض المتعثرة». يوضح الخبراء أن معدل تلك القروض هو 3.3%، وهو بقي ثابتاً منذ انطلاق الاضطرابات الإقليمية التي كبحت النشاط المصرفي اللبناني (يُشار هنا إلى أن تقارير دولية، منها صندوق النقد الدولي، تضع هذا المعدل عند مستوى أعلى، وفي بعض الأحيان قد يصل إلى ضعف المستوى المذكور).
يبقى معطى إيجابي إضافي يخالف النمط المسجّل أو المفترض تسجيله في ظلّ اضطرابات المنطقة وتوتر المناخ السياسي والأمني محلياً. إنها الاحتياطات الأجنبية التي يراكمها مصرف لبنان. فبنهاية حزيران الماضي، بلغت تلك الاحتياطات 37.1 مليار دولار، مرتفعة بنسبة 5% مقارنة ببداية العام.
وبرغم أن مستوى الاحتياطات _ وهي أساساً العملات الصعبة التي تشكل الملجأ يوم يشح تدفق الدولارات واليوروات _ أدنى بنسبة بسيطة مما كان عليه خلال الفترة نفسها من العام الماضي، إلا أنه يبقى متيناً؛ للمقارنة هو يساوي ضعف الاحتياطي لدى مصر التي يفوق حجم اقتصادها خمسة أضعاف الاقتصاد اللبناني.
مصرف لبنان ما انفك يردّد: لا داعي للخوف؟