بعد مرور 25 عاماً تقريباً على إقرار اتفاق الطائف و«الإصلاحات» التي نص عليها، لا تزال الأخيرة سراباً يجري بحثها وكأنها مشاريع جديدة كل الجدة. «الإنماء المتوازن ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام»، يؤكد دستور الطائف، غير أن حكوماته المتعاقبة جميعها لم تتّبع إلا سياسات تركّز على النشاط الاقتصادي جغرافياً وقطاعياً، وتهمل البنى التحتية والخدمات العامة خارج مركز النظام، بيروت الكبرى أو بعضها.
وفي ما يشبه التسليم بأن السلطة المركزية «لم ولن» تقوم بموجب الإنماء المتوازن الدستوري، تم نبش «اللامركزية الإدارية» الواردة في الدستور تحت بند «الإصلاحات» كـ«بدل من ضائع» لنقل مسؤولية التنمية من الدولة المركزية إلى «مجالس الأقضية» التي تقترح مسودة مشروع قانون اللامركزية الإدارية إنشاءها. في ظل التجارب الواقعية، وسلوك القوى السياسية الطائفية، يثير المشروع مخاوف جدية من تكريس الكانتونات المذهبية القائمة، وتعزيز سلطتها على «رعاياها» ونطاقها العقاري، وبما يسمح لها بالتصرف بالأملاك العامة البلدية والمشاعات؛ الأمر الذي يُسيل لعاب المستثمرين وتجار العقارات والمصارف، إذ يفتح المشروع أبواب انتفاع (أو نهب) جديدة، كما يظهر بشكل جلي في الفصل الكامل المخصص لـ«الشراكة بين القطاعين العام والخاص» في مسودة مشروع القانون، والذي ينص على إعفاء القطاع الخاص من العديد من الأحكام القانونية في العقود العامة التي ستمنحها المجالس المستحدثة، بما يؤدي إلى إضعاف الرقابة الرسمية و«خصخصة الرقابة» والتقاضي، فضلاً عن السماح بفتح ملكية شركات المشاريع بالكامل للأجانب. كما يُمنّي البعض نفسه منذ الآن بسندات دين تصدرها البلديات لتمويل المشاريع، بالاستناد إلى أصولها العقارية كضمانة ائتمانية تغنمها المصارف في حال إفلاس البلديات، وهي حالة ليست بنادرة، كما تُظهر تجارب دول؛ أبرزها الولايات المتحدة الأميركية.
المركز اللبناني للدراسات LCPS نظّم ورشتي عمل حول مشروع اللامركزية، الاولى عُقدت في شباط الماضي تحت عنوان «نحو دعم اللامركزية في لبنان»، والثانية عُقدت في 16 تموز الجاري تحت عنوان «اللامركزية من أجل التنمية».
يقول سامي عطا الله، رئيس المركز وعضو «اللجنة الخاصة باللامركزية الإدارية»، التي شكلها رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي ورئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان، إن هناك «استياءً شديداً من الحكومة المركزية، ولا أفق للإصلاح»، ليس في الأمر صدفة، فقد «تم إفراغ الدولة من مضمونها، والحكومة المركزية غير معنية بالإنماء أصلاً»، يضيف عطا الله، بات «هناك واقع يصعب تخطيه»، فلم يعد ثمة إمكانية لتنمية المناطق بغير توكيل المهمة لمجالس محلية منتخبة على مستوى القضاء، وعبر عقود تُلزّم فيها المشاريع بطريقة «شفافة»، مع الحرص على دراسة جدوى المشاريع ودقة الشروط وكفاءة الأداء، رغم أن «التطبيق» في تجارب التعاقد السابقة لا يبعث على التفاؤل، بحسب عطا الله، ورغم أن مسودة مشروع قانون اللامركزية لم تنتظر إقرار قانون «الشراكة بين القطاعين العام والخاص»، فأفردت فصلاً كاملاً في المسودة لـ«الشراكة»، تمنح «الشريك الخاص» إعفاءات قانونية واسعة لجهة الرقابة والتقاضي، وإعفاءات أخرى تسمح بتدويل هذه الشركات بالكامل، عبر إعفاء «شركة المشروع» من أحكام المواد 78 و144 و173 من قانون التجارة، واعتماد الوساطة والتحكيم كـ«أصول متبعة لحل النزاعات»، بدلاً من القضاء، وكذلك «خصخصة الرقابة» لمصلحة «مدققي حسابات من ذوي الخبرات الدولية»، بدلاً من الهيئات الرقابية الرسمية.

المحاصصة في مجالس منتخبة

تنطلق مسودة «مشروع قانون اللامركزية الإدارية» من ورود اللامركزية في إصلاحات الطائف «على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى» (القضاء وما دون)، حيث تنشأ مجالس منتخبة يرأسها قائم مقام، حفاظاً على «الخصوصية» و»التنوع» في فسيفساء المجتمع اللبناني.

يُسيل لعاب
المستثمرون وتجار العقارات والمصارف على الأملاك العامة البلدية


إعفاء القطاع
الخاص من العديد من الأحكام القانونية في العقود العامة


توجس من
«لامركزية الفساد»
في ظل ضعف
الدولة المركزية
غير أن مسودة المشروع تلغي منصب القائم مقام، وتنقل صلاحياته إلى مجالس أقضية منتخبة «بالكامل» من قبل جميع اللبنانيين ممن يثبت أنهم من سكان القضاء فعلياً لمدة لا تقل عن ست سنوات، وقد سددوا الرسوم والضرائب الواجبة عليهم لصالح البلدية، ولو لم تكن أسماؤهم في سجلات النفوس. غير أن مسحاً أجراه المركز اللبناني للدراسات يظهر أن الأحزاب السياسية والزعماء الدينيين يرفضون أن يكون ناخبو مجالس الأقضية من المقيمين فيها، لا المسجلين حصراً، كما يفضل هؤلاء «أن يقتصر دور مجالس الأقضية على التنسيق بين مشاريع البلديات»، وعدم الاضطلاع بأي دور إنمائي؛ أما «المخيف» أكثر بحسب عطا الله، فهو رغبة الأحزاب في أن يكون توزيع مقاعد مجالس الأقضية (الكانتونات المذهبية) على أساس مذهبي أيضاً!
يُبقي المشروع على منصب المحافظ، غير أنه ينقل جل صلاحياته التنفيذية إلى مجلس القضاء، ويبقي على سلطته الرقابية، إذ يحضر الأخير اجتماعات مجلس القضاء بصفته «صلة الوصل» مع السلطة المركزية، من دون أن يكون له حق التصويت، وله أن يدرج بنوداً على جدول الأعمال، وأن يُبدي ملاحظات خطية على المداولات والمقررات؛ ويتدخل مجلس شورى الدولة في حال النزاع بين مجلس القضاء والمحافظ. «لكان خطيراً جداً الأخذ من صلاحيات البلديات ومواردها لإعطائها لسلطة أخرى»، يقول الوزير السابق ورئيس لجنة «اللامركزية» زياد بارود، مؤكداً أن «لا مساس بصلاحيات البلديات ضمن نطاقها الجغرافي، ولا سلطة لمجلس القضاء على البلديات»؛ كما لم تُلغَ اتحادات البلديات، بل باتت «غير مُمأسسة»، وتؤلّف حصراً لغرض القيام بمشاريع مشتركة.

استقلال مالي وإداري

لمجالس الأقضية استقلالية إدارية ومالية، وصلاحيات واسعة في «كل ما له طابع أو صفة المنفعة العامة»، تشمل منح مختلف العقود والتراخيص لإنشاء البنى التحتية ومرافق الخدمات العامة والمشاريع الإنتاجية، وإنشاء «أجهزة متخصصة» للأمن والإحصاءات والمعلوماتية. يتطلب تنفيذ المهام هذه واردات كافية، ويشير بارود في هذا السياق إلى أن معدل الإنفاق المحلي عالمياً يبلغ 27%، أما في لبنان، فيتراوح بين 3% و7%، «والهدف رفعه إلى 20%»، بتأمين إيرادات إضافية عبر إعادة توزيع استيفاء الضرائب «تبعاً لانتقال المهام من المركز إلى الأقضية»، من دون فرض ضرائب ورسوم جديدة، في ما عدا الضريبة على الربح العقاري.
بحسب مسودة المشروع، تغذي مالية مجالس الأقضية الرسوم التي يستوفيها القضاء مباشرة من المكلفين عن التراخيص التي يصدرها رئيس مجلس القضاء، ومنها رسوم التسجيل العقاري والضريبة على الأملاك المبنية والضريبة على الربح العقاري ضمن القضاء، و20% من إيرادات ضريبة الدخل، وإيرادات أملاك القضاء والمشاعات، ومداخيل المشاريع التي يستثمرها القضاء أو يكون شريكاً فيها، بالإضافة إلى العلاوات على اشتراكات المياه والكهرباء والهاتف الثابت ضمن القضاء، فضلاً عن حصة القضاء من عائدات «الصندوق اللامركزي» الذي يحلّ محل «الصندوق البلدي المستقل».
يتمتع «الصندوق اللامركزي» باستقلال إداري ومالي، ويديره مجلس أمناء منتخب من قبل مجالس الأقضية والبلديات. تعتبر مسودة المشروع أن الصندوق المذكور هو «الآلية الأساسية لتأمين ظروف تنموية متكافئة بين مختلف المناطق، وردم الهوة تدريجاً بين المناطق الغنية والفقيرة، بالتضامن والتكافل بين الدولة ومختلف الأقضية». تغذي مالية الصندوق 25% من إجمالي واردات الضريبة على القيمة المضافة، و10% من إجمالي فواتير الهاتف الخلوي، و25% من إجمالي إيرادات الجمارك، و25% من رسوم الانتقال، و5% من إصدارات اللوتو، و6% من كامل قيمة عقود التأمين، بالإضافة إلى الرسوم على إشغال الأملاك العمومية. أما توزيع عائدات الصندوق على مجالس الأقضية، فيخضع لآلية محددة وفق مؤشرات تقيس درجة التنمية في القضاء (الأقضية الأقل نمواً تحصل على العائدات الأكبر) وجباية الرسوم فيه، فضلاً عن مساحة القضاء وعدد السكان المسجلين فيه.

لامركزية الفساد

تتعدى المخاوف من تطبيق «اللامركزية» بالصيغة هذه تكريس الكانتونات المذهبية وتعزيز هيمنتها إلى التوجس من تعميم «لامركزية الفساد»، إذ إن الدولة المركزية غير قادرة أو غير معنية أصلاً بالمراقبة وفرض النظام العام في الواقع الراهن، فكيف تكون الحال إذا ما تكرست بالقانون «استقلالية» الجماعات المذهبية، أو بالأحرى زعاماتها التي تتصرف على أساس أنها فوق المحاسبة وفوق القانون؟ فهل من قيمة حقيقية لوعد إتاحة الرقابة الشعبية المباشرة على الهيئات المنتخبة للأقضية، عبر إلزام مسودة مشروع قانون اللامركزية لمجالس الأقضية بنشر كافة معلوماتها وبياناتها، وإعطاء المواطنين حق الحصول على المقررات والمستندات؟ أما حشر «الشراكة» وإعفاءاتها القانونية في مسودة مشروع القانون، فيعزز المخاوف تلك؛ فمَن يقدر على المراقبة والتأثير في قرارات مجالس إدارات الشركات الخاصة المحلية الملتزمة المشاريع، فضلاً عن الشركات الدولية التي تُشرّع لها الإعفاءات المذكورة الأبواب على مصراعيها؟
بالاستناد إلى ما سبق، ألا يشكل مشروع اللامركزية الوسيلة المثلى لتنصّل السلطة المركزية كلياً ونهائياً من مسؤولية «الإنماء المتوازن» التي ينص عليها الدستور؟ لا تقتصر المخاوف تلك على متلقي المشروع، بل على أبرز واضعيه أيضاً: «يمكن أن تأتي اللامركزية بنتيجة معاكسة على صعيد الإنماء المتوازن، فبعض الأقضية معدومة»، يحذر بارود، مؤكداً أن اللامركزية قادرة على «رفع الأعباء» عن السلطة المركزية، لكن لا يمكنها في أي حال من الأحوال أن تحل محلها؛ ما يعيدنا إلى المربع الأول: شرط تحقيق وعد التنمية اللامركزية هو إصلاح الدولة المركزية نفسها! كان إلغاء وزارة التخطيط «مؤشراً لانحدار البلد»، يقول بارود، معتبراً أن دور الوزارة المذكورة «يتماشى تماماً مع مشروع اللامركزية، بل يُفترض أن «يكون محركاً أساسياً» لمشروع التنمية اللامركزية. يؤيد الرأي الأخير إبراهيم شحرور، مدير قسم التخطيط والبرمجة في مجلس الإنماء والإعمار، بل ويشكك بإمكانية إحداث تنمية على الإطلاق من دون وزارة للتخطيط، سائلاً إن كان بالإمكان مثلاً مجرد «الحديث» عن خطة نقل عام في بيروت الكبرى (التي تضم أقضية عدة) في مجلس للقضاء، وخاصة أن التجربة على أرض الواقع بيّنت مثلاً أن أي قضاء لم يستطع أن يدير نظام معالجة النفايات بشكل مستقل، بحسب شحرور.



«رغبة المانحين الدوليين»

«فهمت الجهات الفاعلة في البلدان العربية أهمية تعزيز اللامركزية كأداة للإصلاح، لأن هذه هي رغبة المانحين الدوليين»(!)، بحسب ورقة لسامي عطا الله ومنى حرب بعنوان «ضرورة تعزيز اللامركزية في العالم العربي لتحسين تأمين الخدمات».
يخشى موظفو الدولة التنازل عن السلطة والموارد، فيدّعون دعمهم لللامركزية، بينما يسعون «إلى التحايل وإيجاد طرق لعدم تنفيذها بالكامل»، كأن يقيدوها مالياً، بحسب الورقة نفسها التي تقول إن وزارة الداخلية اللبنانية «تستخدم مصادر تمويل متعددة لدراسة الإصلاحات اللامركزية وتدريب موظفيها وإنشاء هيكليات» خاصة بها، «على حساب تعزيز الحوكمة المحلية».
وتشير الورقة إلى تطبيق القوى الاستعمارية في العالم العربي سياسات مركزية حيناً، ولامركزية حينا آخر، تبعاً لمقتضيات تعزيز سيطرتها و«مصالح النخب الحاكمة وشبكاتها»، كما في لبنان حيث «تُحكم القوى الطائفية قبضتها على البلديات من أجل تعزيز سيطرتها على الأراضي ومصادر الثروة الريعية، وتوزيع خدماتها على زبائنها» السياسيين.




إضاءة | «سندات دين بلدية»، تمهيداً للسطو على الأصول العقارية

قانون البلديات الحالي يجيز للأخيرة الإدارة أو المشاركة في إدارة مشاريع ذات منفعة عامة، كالمدارس ودور الحضانة وبرادات المنتجات الزراعية والمستشفيات والمتاحف والمكتبات العامة والأندية على أنواعها، فضلاً عن «وسائل محلية للنقل العام»، كما تجيز المادة 49 منه تقديم القروض للمشاريع تلك، والمساهمة بنفقاتها، يقول الأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة زياد الحايك، منتقداً تخلي البلديات عن الكثير من مسؤولياتها وصلاحياتها.
بناءً عليه، يقترح الاستشاري إبراهيم مهنا إصدار البلديات سندات دين خاصة بها لتمويل المشاريع، على غرار البلديات في الولايات المتحدة الأميركية، فتكون الأصول التي تملكها البلديات، العقارية تحديداً، ضمانات لديونها؛ ففي حال إفلاس بلدية ما أو عجزها عن الدفع، تصبح أصولها غنائم للدائن (المصرف)! لم يكن تناول مهنا لتجربة سندات الدين البلدية في الولايات المتحدة الأميركية موفقاً، فقد طاول خطر الإفلاس بلديات أميركية كثيرة منذ سنوات، بينها بلدية مدينة نيويورك نفسها؛ وربما كانت الحالة الأبرز بلدية مدينة ديترويت التي أُعلن إفلاسها في المحكمة، وأُجبرت على بيع الكثير من أملاكها ومؤسساتها، بينها المدارس العامة، يوضح الباحث الاقتصادي والوزير السابق شربل نحاس، مشيراً إلى قيود مفروضة على استدانة البلديات في لبنان، كاشتراط موافقة وزارتَي الداخلية والمال. في حال رفع القيود عن استدانة البلديات، على الأخيرة أن تكون «واثقة» من حجم واستمرارية إيراداتها، كأن يدفع الصندوق البلدي المبالغ المستحقة للبلديات بشكل منتظم، وأن تكون حصة الأخيرة من الموازنة العامة مضمونة ومنتظمة، يقول نحاس، لافتاً الى أن الشروط هذه غير مؤمنة حالياً، ما يعني أن «لا معرفة ولا ثقة» للبلديات بمداخيلها، ما يجعل الاستدانة مغامرة خطرة، إذا افترضنا حسن النوايا؛ ونظراً للمعطيات الكثيرة التي تصعّب حسن الظن، فإن «العملية مشبوهة».
إسقاط التجربة الأميركية غير الموفقة على الواقع اللبناني المشوه سيأتي بنتائج أكثر سوءاً، نظراً الى «الانفصام الكامل» بين مكان الإقامة والعمل، وبين مكان القيد، يشرح نحاس: في بلدات الريف الذي نزح نحو 80% من أهله، الغالبية العظمى من المسجلين على لوائح الناخبين هم غير مقيمين بشكل دائم، ما يجعل البلديات «كيانات افتراضية» محكومة بأمرين، «العلاقات العشائرية» التي تشكل الرابط الاجتماعي أو «أساس اللحمة» الذي يُنتج رؤساء البلديات، و«السمسرة العقارية»، حيث يفعل رؤساء البلديات أقصى المستطاع لرفع أسعار الأراضي إلى حدها الأقصى، وتحويل جلها إلى مساحات قابلة للبناء. في ظل البنية الاجتماعية _ الاقتصادية القائمة، البلديات هي في المحصلة «تعاونية لمالكي العقارات»، يقول نحاس، ما يفسر التفنن في ابتكار شتى الأساليب لـ«نتش» أجزاء إضافية من المشاعات والأملاك البلدية.