تحيل الخلافات المتداخلة في مجلسي الوزراء والنواب، وارتباط بعضها ببعض، فضلاً عما يجري في قلب كل منهما، المؤسستين الدستوريتين معطلتين تماماً. وشأن النزاعات الدائرة في مجلس الوزراء على جدول الاعمال تارة، وعلى مناقشة بعض الملفات المهمة، أضف ارتداد عدم التوافق عليها على توقيع القرارات وإصدارها، بات مجلس النواب يواجه حالاً مطابقة: خلاف على جدول الاعمال يتسبب بالحؤول دون اكتمال النصاب القانوني، ومن ثم إقرار بنود حيوية مماثلة بجدواها للملفات العالقة في مجلس الوزراء كالجامعة اللبنانية.
يبدو أيضاً أن من المتعذر فك الاشتباك بين المؤسستين عما يجري داخل كل منهما، نظراً الى أن اللاعبين هم أنفسهم في المطرحين، فريق 8 و14 آذار. وقد يكون الخلاف على موضوع تسديد رواتب موظفي القطاع العام من نهاية الشهر الحالي خير معبّر عن وطأة هذا الانقسام.
تعكس هذا الواقع معطيات يتحدث عنها رئيس مجلس النواب نبيه بري بإسهاب:
1 ــ يدافع عن وزير المال علي حسن خليل في إصراره على رفض تسديد رواتب الموظفين ما لم يُجز مجلس النواب تسديدها بقانون. بل يؤكد بري أنه وراء إصرار وزيره على هذا الموقف، ويلاحظ أن المشكلة «ليست ابنة ساعتها، ولا عمرها يعود الى الايام الاخيرة على نحو ما يشيعه البعض كأزمة طارئة استجدت وفاجأت الجميع. بل تعود الى الجلسة الاولى لمجلس الوزراء في آذار الماضي، عندما طلب وزير المال الكلام للمرة الاولى وشكر رئيس الحكومة على ثقته بتوزيره، وأبلغ اليه ما يتوقع أن يلقى معارضة من زملائه الوزراء، وهو أنه لن يجيز إنفاق أي سلفة خزينة لا تقترن بسند قانوني. قال أيضاً إنه يعرف أن إجراءً كهذا سيثير غضب الوزراء، إلا أن عليه مبكراً إطلاعهم على الامر».


خلاف على
ملف مالي يبعث
الروح في نزاع
سياسي

يضيف بري: «بالفعل أغضب هذا الموقف الوزراء جميعاً الذين راحوا يشتكون إلي من الوزير خليل، بمن فيهم زميله في حركة أمل وزير الاشغال العامة والنقل غازي زعيتر من أنه لا يستطيع الحصول على سلفة خزينة من وزير المال لحاجات ملحة لوزارته، ليس لها سند في احتياطي الموازنة. تسبب الامر بخلاف أيضاً مع الرئيس ميشال عون. حركة أمل اليوم هي في موقع المسؤولية المباشرة عن الخزينة ومالية الدولة، ولن أسمح بأي إجراء من شأنه تكريس مخالفة قانونية. الموقف قاطع».
2 ــ لم يعد الخلاف على تسديد رواتب موظفي القطاع العام مرتبطاً بالمسألة المالية فحسب، بل بدا أنه يقترن بتصفية حساب سياسي قديم بين فريقي 8 و14 آذار، ومن خلالهما بين رئيس البرلمان والرئيس فؤاد السنيورة بعدما أجازت حكومة الاخير منذ عام 2005 تسديد الرواتب بقرار حكومي، خلافاً للأصول القانونية المتبعة التي توجب التئام مجلس النواب وإقرار قانون بذلك. يقول بري في معرض تأكيده وضع حدّ نهائي لهذه القاعدة إنه سيعيد الآلية القانونية لتسديد الرواتب الى نصابها الصحيح.
يلاحظ أيضاً أن نواب تيار المستقبل يبررون الدفاع عمّا درج عليه السنيورة بأنه عرف قابل للاستمرار وممكن، كأن يراد تكريسه قاعدة موازية، بل بديلة من القاعدة الأم التي ينص عليها القانون. تالياً، لا تسديد للرواتب، في حساب هذا الفريق، بإجازة من الهيئة العامة لمجلس النواب. حيال هذا الموقف، يتشبّث السنيورة وتيار المستقبل بعدم إدراج هذا البند في جدول أعمال أي جلسة نيابية محتملة.
3 ــ يتحدث بري أيضاً عن مشكلة كبيرة لا تزال بلا حل، هي مبلغ 11 مليار دولار أميركي أنفقتها حكومة السنيورة بين عامي 2006 و2008، بعد استقالة الوزراء الشيعة والوزير يعقوب الصراف، لا مستندات قانونية فيها على الاطلاق، وبينها هبات ومساعدات الى الحكومة اللبنانية أهدرت. لا يخفي رئيس المجلس أن الموضوع ينطوي على بعد سياسي في حجم إهدار مالي ضخم كهذا بلا قيود رسمية، إلا أنه أضحى اليوم أمام وزير المال برسم معالجته، وضرورة إنهاء هذه المشكلة.
مذ كشف عن مبلغ 11 مليار دولار، لم يشأ أي وزير للمال جبه المشكلة، وهو يقاربها بلا وثائق وقيود رسمية، حملت أحد وزراء المال المتعاقبين في حكومة سابقة على القول إنه يحاذر الخوض فيها، ويفضّل أن يورثها ويتركها لمَن يخلفه.
ترجمة لذلك، طلب بري من خليل بعيد تسلمه حقيبة المال إحاطة نفسه بفريق عمل من 30 الى 40 اختصاصياً معنياً لمراجعة كل ما يتصل بالـ11 مليار دولار، ومحاولة جمع مستنداتها القانونية ـــ غير الموجودة أساساً ـــ لتحقيق قيودها في وزارة المال وإنهاء عبئها على الخزينة العامة. في وقت لاحق، أعلم الوزير رئيس المجلس بفريق عمله من 50 خبيراً لمعاونته على ملف سيستغرق إتمامه 18 شهراً، في تلك الاثناء يكون أنجز الموازنات. أتمّ وزير المال موازنة 2014 ووضعها على طاولة مجلس الوزراء، وفي 20 آب تكون موازنة 2015 على الطاولة نفسها أيضاً.
4 ــ يشير رئيس المجلس الى توخيه وضع حدّ لملف لم تعد آثاره السلبية ـــ على خطورتها ـــ تقتصر على الشق المالي الغامض الذي يحتاج حقاً الى حل، بل بات المطلوب كذلك إنهاء تداعيات مرحلة سياسية خبرها اللبنانيون جميعاً، وشهدت أحد أكبر انقسامات وطنية مرّ فيها لبنان، عبّرت عنها آنذاك حكومة غير ميثاقية بكل ما فعلت. بيد أنه يلاحظ أن الفريق الآخر لا يريد إخراج نفسه من المرحلة تلك، ويتشبث بنتائجها وأخطائها، ولا يتردد في تبريرها. عوض أن يغادرها، يسعى الى تعميم نتائجها المخالفة للقانون. وها هو الخلاف على طريقة إخراج تسديد رواتب موظفي القطاع العام يحاول، عبر تعطيل جلسة مجلس النواب، تعميم مخالفة 2005 على تداعياتها عام 2014.