مبادئ كثيرة قد نتفق عليها ونَعدّها مسلّمات، مثل العنف الذي يُعدّ جريمة بنظر الجميع. تبقى هذه المبادئ مسلّمات حتى يدخل فيها العيب السري الأكبر في مجتمعنا: «الجنس».العنف: جريمة. العنف الجنسي: معادلة مختلفة.
هذه المعادلة، التي تُمارس بنسبتها العظمى على النساء، تأخذ مجالها للنقاش، إذ إنّ العنف الجنسي كان يُعد، حتى فترة ليست بعيدة، أمراً طبيعياً وإثبات رجولة في مجتمعٍ يتشرّب الأحكام الدينية والنظرة الذكورية. كذلك النساء كنّ، وما زلن في بعض الأحيان، يخفن من المجاهرة بعملية الاعتداء الجنسي عليهنّ، ويفضّلن السكوت تلافياً لفضيحة تطاولهنّ على الرغم من براءتهنّ.

إلّا أنّ هذا العنف تحوّل اليوم إلى جرائم جنسية تُعاقب عليها المواثيق الدولية، وتحديداً في حالات النزاعات المسلّحة.
من هذا المنطلق عقدت منظمة «عدل بلا حدود» بالتعاون مع نقابة المحامين، أمس مؤتمراً بعنوان «الجرائم الجنسية والجرائم المرتكبة على أساس الجندر في النزاعات المسلحة»، وذلك لمناسبة يوم العدالة الدولية.
يعرّف العنف الجنسي على أنه أي فعل جنسي يحصل تجاه الآخر من دون موافقته، أي إنه عنف قائم على أساس النوع الاجتماعي أو الجندر. الاغتصاب ليس الفعل الجنسي العنيف الوحيد الذي يندرج في إطار هذه الجرائم، كما قد يظن البعض، بل هو أقصى درجاتها. تعدّد ربيعة الغيرني، الخبيرة في الجرائم الجنسية والجرائم، التي ترتكب على أساس الجندر، أنواع الجرائم الجنسية التي تشمل «الدعارة القسرية، التحرش الجنسي (شفهياً وجسدياً)، الأفعال الجنسية القسرية المرتبطة بالإتجار بالبشر، الاعتداء الجسدي، الزواج المبكر والمدبّر وجرائم الشرف». آثار هذه الجرائم عديدة، تبدأ بالأذى الجسدي الذي يشمل الأمراض والحبل القسري، الأذى المعنوي المتمثّل في الصدمة والذل والإرباك، الأذى الاجتماعي الذي يؤدي إلى الانعزال وخسارة الدور الاجتماعي، وأخيراً الأذى الاقتصادي من خلال ترك الممتلكات والهرب.

القانون يضع «الجرائم الجنسية» ضمن الجرائم المخلّة بالآداب العامة

قانون العقوبات اللبناني يبتعد عن مصطلح «جرائم جنسية» ليصنّف هذه الأعمال في بابه السابع ضمن الجرائم المخلّة بالأخلاق والآداب العامة، إلّا أنّه ميّز بين نوعين من هذه الجرائم: الأول هو جرائم تُرتكب برضى الطرفين، ويندرج في إطاره الزنا، سفاح القربى والمجامعة خلافاً للطبيعة. النوع الثاني هو الجرائم المرتكبة من دون وجود الرضى بقصد إلحاق الأذى. يوضح الكولونيل إيلي الأسمر أنّ «المواد 503 حتى 506 تعاقب على جريمة الاغتصاب»، فيما تبقى المادة 503 العائق الأول أمام تجريم فعل الاغتصاب الزوجي، إذ تعاقب «من أكره غير زوجه بالعنف والتهديد على الجماع». محاولات تجريم الاغتصاب الزوجي في قانون العنف الأسري لم تنجح في تجريم فعل الاغتصاب، بل جرّمت فعلي العنف والتهديد للحصول على ما سمّي في القانون «الحقوق الزوجية»، ليبقى الاغتصاب جريمة جنسية مقتصرة على المجامعة خارج إطار المؤسسة الزوجية، وليدخل مفهوم «الحقوق الزوجية» لاول مرة في قانون مدني.
إشكاليات عدة طرحها الحاضرون، أبرزها يتعلّق بزواج القاصرات. تعاقب المادة 505 من قانون العقوبات من يُمارس عملا جنسيا مع قاصر دون الخامسة عشرة «سواء كان ذلك بتوافر الرضى أو عدمه»، وتصنّف ذلك في إطار الاغتصاب. إذا كان القانون يمنع هذا العمل، فكيف تسمح الدولة بإقامة زواج على قاصر؟ الحالة الوحيدة التي يمكن أن تمنع هذا الفعل هي الطعن في صحة الزواج، ليتّضح مجدداً أنّ القوانين المذهبية تعلو دوماً على القوانين المدنية.
المحامون الذين حضروا المؤتمر كانت لهم آراؤهم في تفاصيل التحقيق في جرم الاغتصاب. فهم شهدوا على أسئلة «غير بريئة» تُطرح في التحقيق مع الضحية: «ماذا كنت ترتدين أثناء وقوع الجريمة؟ في أي ساعة حصلت الجريمة؟ ماذا كنت تفعلين في هذا الوقت؟ هل قمت بأي إيحاءات جنسية؟»، في محاولة ذكورية محض لإيجاد سبب لإدانة الضحية. يبرّر الكولونيل الأسمر هذه الأسئلة بأنها تأتي ضمن إطار التعامل الموضوعي والمهني لمعرفة تفاصيل دقيقة حول الجريمة، «فالمحقق يمكن أن يتعاطف إنسانياً مع الضحية، لكن عليه أن يؤدي عمله بمهنية تامة»، جوابٌ لم يُقنع الكثيرين.
للأدلّة أهمية كبرى في الجرائم الجنسية، كما في كل الجرائم، إلّا أن الكلام عنها هنا يندرج في إطار التصرفات التي يمكن أن تُقدم عليها الضحية بعد وقوع الجريمة، ما يؤدي إلى تدمير هذه الأدلة. يوضح الكولونيل بعض الإجراءات الضرورية التي يجب اتخاذها بعد وقوع الجرم «أولا يجب الحرص على أن يكون هناك سرعة في التبليغ، لأن ذلك يؤدي إلى سرعة في استثمار الوقت والأدلة، وبالتالي إلى كشف الفاعل». معظم ضحايا الجرائم الجنسية لا يبلغون سوى بعد مرور عدة أيام. الأمر الثاني الذي يجب التنبه إليه هو «تجنب الاستحمام قبل تبليغ قوى الأمن لأخذ العينات اللازمة من قبل الطبيب الشرعي»، لأن عملية الاغتصاب تترك آثاراً على الضحية. وأخيراً على الضحية الاحتفاظ بالثياب التي كانت ترتديها عند وقوع الجريمة، لأخذ الأدلّة عنها، لأن معظم الضحايا يغسلن ثيابهن أو يرمينها كرد فعل نفسي على الواقعة.
الجرائم الجنسية لا تزال «عيباً» في المجتمع، لكنها عيبٌ يُلقى على الضحية لا على الجاني، عيبٌ ينطلق من منظور أخلاقي لا بنيوي. هذه التركيبة الاجتماعية المغلّفة بالخوف تضع الضحية دائماً في خانة المسبّب للجريمة الجنسية، وتصبح الجريمة مضاعفة من اعتداء جنسي جسدي يمارسه الجاني إلى تدمير معنوي يتولاه المجتمع. لن تصبح الجرائم الجنسية قضايا فعلية في المحاكم «ما لم يجرِ إيجاد نظام قضائي لحماية الضحايا والشهود» وفق كلام المحامية بريجيت شالابيان، فما نفع السماح باللجوء إلى المحاكم إذا لم تتوافر الحماية اللازمة للمدعي؟