من سراديب التعقيدات السياسية والمصالح المتضاربة حول اتفاق «التهدئة» في غزة، ننتقل إلى الجوهري في الحدث الغزّاوي، الذي تجاوز الفاعلين من كل الأطراف، ونيّاتهم وخططهم وحدود حركتهم وقيودها ... الخ، إلى انكشاف المشهد التاريخي في اكتماله وحضوره الحي ودلالاته، التي لن تنتهي بتوقيع «التهدئة» مهما كان شكلها؛ فالتاريخ، في مفاصله، لا يعرف «التهدئة»، بل جدل الصراعات العنيفة والتسويات الكبرى.
كشفت المواجهة في غزة، بحدّ ذاتها، مدى الهشاشة الاستراتيجية التي تعانيها إسرائيل، ما يطرح على جدول الأعمال التاريخي، انبثاق الصراع العربي الإسرائيلي، من جديد، في أشكال ومسارات عديدة، غير متوقعة عسكريا وأمنيا ونضاليا وسياسيا وثقافيا ودبلوماسيا الخ. وهو ما سيفضي، في الأخير، إلى تسوية في سياق إعادة ترتيب البنى السياسية للمنطقة التي أُنهكتْ حتى شفا النحر والانتحار.
أولا، منذ التدخل الأميركي في العراق سنة 1990، بدأ يتضح أن استخدام القوة العسكرية الإسرائيلية لأغراض التدخل الامبريالي في المنطقة، مستحيل سياسيا؛ لقد طُلب من إسرائيل، حينها، أن تكون خارج الحرب لضمان شنّها وتحقيق أغراضها؛ تكرر ذلك في غزو العراق سنة 2003، لكن سنوات «الربيع العربي» أظهرت للإمبريالية وحلفائها من الرجعيين العرب، أنه لا يمكن استخدام القوة العسكرية الإسرائيلية في حروب اسقاط الدول وتغيير الأنظمة وتفكيك وتركيب المنطقة؛ فجرت الاستعانة بجحافل التكفيريين كأداة عسكرية وأمنية للإمبريالية والرجعية. لقد تراجعت مكانة إسرائيل ودورها لحساب الأنظمة الرجعية الخليجية، وحركات الإسلام السياسي المتطرفة؛ لم يعد بالإمكان القول إن اسرائيل هي المخفر الأمامي للإمبريالية. صحيح هي مخفر، ولكنه مشلول.
سعت إسرائيل إلى دور في الحرب على سوريا من خلال إقامة منطقة أمنية في الجولان، بالتعاون مع «المعارضة» السورية وعمّان؛ فشل المشروع ميدانيا وسياسيا، محليا وإقليميا ودوليا؛ ليس هناك مكان لإسرائيل هنا إلا في الحدود الاستخبارية؛ ينطبق ذلك على حرب العراق؛ حتى العلاقة مع الانفصال الكردستاني، تمر، اجباريا، عبر تركيا. ولنتذكر، دائما هنا، أن إسرائيل تقع خارج المفاوضات حول النووي الإيراني، وحول الدور الإقليمي لإيران التي جرى التسليم بها، على المستوى الدولي، قوة كبرى لا يمكن تجاهلها في إدارة المنطقة. وبغض النظر عن الرؤية الإسرائيلية للتحولات المصرية، ظلت إسرائيل خارج المشهد؛ انتهت التحولات تلك، والتطورات الإقليمية ــ وخصوصا تنامي الظاهرة الإرهابية في سيناء، إلى تفكيك كامب ديفيد فيها لمصلحة الجيش المصري، بينما وجدت القاهرة في الرياض، لا في تل أبيب، أو حتى واشنطن، الحليف الرئيسي الذي يمكنها من حصتها في النفط الخليجي واستعادة دور إقليمي أوسع. وحتى النظام الأردني ــ الأضعف بين القوى الإقليمية ــ أدار ظهره لإسرائيل، ثلاث مرات في المفاوضات مع الفلسطينيين حين اشترط الأخذ بالاعتبار مصالح الأردن في أي تسوية، وفي رفض مشروع الشريط الأمني في الجولان، وفي رفض التعاطي مع العرض الإسرائيلي للحماية من الإرهاب.
ثانيا، على هذه الخلفية، أظهرت التجاذبات حول اتفاق «التهدئة» في غزة، أنه حتى الصراعات والمفاوضات حول وقف النار، لا تجري مع إسرائيل، بل بين المحاور العربية والإقليمية ومن ثم الدولية! فلنتوقف للتفكير في هذه الحقيقة السياسية التي تعيها القاهرة والرياض والدوحة وأنقرة، وتتجلى في مواقفها وأشكال إدارتها الإقليمية المحلية للمفاوضات، التي تبين أن الدور الأميركي فيها، مقيد بالإقليمي إلى حد بعيد.
ثالثا، ماذا يبقى من إسرائيل سوى قوتها العسكرية المجرّدة؟ قوة جبارة، ولكنها، بعد هزيمتها أمام جدار الردع المقاوم في لبنان 2006، أصبح نطاق عملها الاستراتيجي محصورا داخل فلسطين، بل داخل جزء صغير من فلسطين، غزة.
رابعا، في غزة، أظهر التحسّن النسبي في الطاقة الصاروخية ــ المحدودة ــ للمقاومة الفلسطينية، حقيقة جغراستراتيجية غائبة، هي افتقار إسرائيل إلى العمق الجغرافي اللازم لضمان «الأمن الوطني»، ما يطرح سؤالا واقعيا وراهنا عن فعالية «رابع أقوى جيش في العالم» في مواجهة مجموعات صاروخية في غزة والضفة، مهما كانت بدائيتها ونطاقها وفعاليتها؟ المدنيون الإسرائيليون إلى الملاجئ والردع الإسرائيلي لا تتعدى قدرته قصف المدنيين الفلسطينيين، بينما يمكن عزل إسرائيل عن حركة الطيران المدني الدولي.
خامسا، في سياق ممكن ــ برغم العراقيل التي تواجه قيامه ــ لإعادة بناء الوحدة السياسية للشعب الفلسطيني على أرضه التاريخية، (خمسة ملايين ونصف مليون، مجزئين الآن إلى ضفاويين وغزاويين وعرب 1948)، بقيادة وطنية واحدة وبرنامج تقدمي علماني مفتوح أمام اليهودي بالطبع، سوف نكون أمام حركة تحررية من نوع جديد، تضع الكيان الإسرائيلي في أزمة سياسية مستديمة داخليا ودوليا، وتجتذب إلى صفوفها المزيد والمزيد من الفئات الفلسطينية المحيّدة واقعيا عن الصراع، ومن اللاجئين الفلسطينيين شبه المندمجين خارج الوطن، ومن الجماهير العربية والقوى المناهضة للإمبريالية حول العالم. أدرك، بالطبع، المصاعب الجدية التي تعرقل هذا الاتجاه بسبب تحكّم القوى الانقسامية في القرار الفلسطيني، واستقرار قبول البنى السياسية القائمة، وحل الدولتين في حدود 1967؛ هذا «الحل» نفسه هو الذي يجزئ الفلسطينيين، سياسيا وجغرافيا، إلى اربعة أقسام في الضفة وغزة واسرائيل والشتات؛ هذا «الحل» ــ وهو لم يعد ممكنا على كل حال بسبب استشراء المستوطنات ــ لا تزال البيروقراطية الفتحاوية، تلحّ عليه، لضمان سيطرتها على «السلطة» والموارد، بينما حماس وباقي الفصائل، تتحرّك، برغم الشعارات، في إطاره بالذات، ودوافعها الاستبدال أو المحاصصة أو العجز؛ حل الدولتين أصبح من الماضي؛ الشعار الآن وحدة الشعب الفلسطيني وحقوقه السياسية في فلسطين، وتطبيق القرار 194، القاضي بعودة اللاجئين. أرادت إسرائيل، بالعدوان الجديد على غزة، الخروج من عزلتها المتفاقمة، وتهاوي مكانتها الاستراتيجية، فانكشفت أمام مَن يريد أن يرى: إسرائيل ليست قائمة في ذاتها، بل في العلاقة السياسية مع وفي ما بين البنى الفلسطينية والعربية والإقليمية؛ حتى البعد الدولي تراجع ويغدو، أكثر فأكثر، محكوما بالمحلي والإقليمي.
في الاستنتاج، أمر إسرائيل في أيدينا، ومصيرها محكوم بمآل الصراعات العربية والإقليمية.