انتخب الشيخ عبد اللطيف دريان أمس مفتياً جديداً للجمهورية. فوز رئيس المحاكم الشرعية السابق كان متوقعاً، فقد جرى التوافق على تعيينه على رأس دار الفتوى محلياً واقليمياً. انهى انتخاب دريان صراعاً عمره 4 سنوات بين تيار المستقبل ومفتي الجمهورية السابق المفتي الشيخ محمد رشيد قباني. نزاع استخدمت فيه كل انواع الاسلحة لتطويع قباني من القضاء (تهمة اختلاس الاموال بحق نجله الشيخ راغب قباني)، والاعلام، والهجوم على أنصاره، بالاضافة الى الاستهداف الشخصي للمفتي ومحاصرته في مسجد الخاشقجي (خلال تشييع الشهداء الذين سقطوا في التفجير الذي استهدف الوزير محمد شطح).
الخلاصة السياسية الأبرز لذلك الصراع كانت «انشقاق دار الفتوى عن السياسة السعودية في لبنان، للمرة الاولى منذ قيام الجمهورية اللبنانية»، يقول سياسي مخضرم. يوم امس، عادت دار الفتوى جزءاً من السياسة السعودية في لبنان، في لحظة مفصلية، عاد فيها الرئيس سعد الحريري من «غربته» الاختيارية التي دامت اكثر من 3 سنوات، تحت عنوان «قيادة الاعتدال السني» في مواجهة التكفيريين. والمفتي الجديد هو من «سيلمّ انفلاش رجال الدين واتجاه الخطاب الديني نحو التطرف»، بحسب مصادر مستقبلية. لكن عودة الدار إلى الحضن السياسي السعودي، لا تعني ان دريان معاد للفريق الثاني في لبنان. فكما ان صلات المفتي السابق بالعائلة الحاكمة في الرياض لم تنقطع طوال السنوات الماضية، كذلك فإن المفتي الجديد تربطه علاقة «لا بأس بها» بسوريا. ويُحكى انه زار مفتيها الشيخ أحمد بدر الدين حسون، قبل أشهر، كما التقى السفير السوري في بيروت علي عبد الكريم علي اكثر من مرة. كذلك تربطه علاقات جيدة بمعظم مكونات «الفريق السني في 8 آذار».

عودة الدار إلى
الحضن السعودي لا
تعني ان دريان معاد للفريق الثاني في لبنان


أراد الحريري تعزيز هذا التوجه ابتداءً من يوم امس، من خلال «الصورة الجامعة» للطائفة التي تعمّد إظهارها في منزله في وسط بيروت بعد انتخاب دريان، والتي حضرها المفتي السابق الذي قضت التسوية بوقف حملة تيار المستقبل عليه وعلى ابنه. كذلك كان لافتاً حضور الرئيس السابق للحكومة نجيب ميقاتي. يقول احد «صقور المستقبل»: «المشهد جديد وجامع. لكن لا داعي للمبالغة. لا يتوقعنّ أحد غداً ان يقف جمال الجراح إلى جانب عبد الرحيم مراد».
في المقابل، حرص دريان سريعاً، في كلمته التي ألقاها بعد انتخابه، على إظهار الدور الذي سيؤديه: الاعتدال والانفتاح والشراكة.
قبل التوجه إلى منزل الحريري، اجتمع 93 عضواً من اصل 103 اعضاء من الهيئة الناخبة، في القاعة التي اعلن فيها المجلس الشرعي الموالي لتيار المستقبل منذ عامين خروجه عن طاعة قباني. كان من المفترض اعلان فوز دريان بالتزكية، لكن ترشيح هيئة علماء المسلمين للشيخ احمد الكردي غيّر المعادلة. على مدى ساعة ادلى اعضاء الهيئة الناخبة بأصواتهم، فنال دريان 74 صوتاً، والكردي 8 اصوات، فيما اعتبرت ورقتان لاغيتين، بالاضافة الى 8 أوراق بيضاء. وصول دريان الى رئاسة دار الفتوى كان مخططاً له مسبقاً. فقد وضع الفريق المقرب من قباني ورئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة اتفاقية تتضمن ثلاث نقاط لتسوية خلاف دار الفتوى، اولا: الاتفاق على دريان مفتياً، ثانياً: الغاء المجلسين الشرعيين عند تولي دريان منصبه، ثالثاً: عدم المس بصلاحيات مفتي الجمهورية بحسب المرسوم رقم 18. بعد الاتفاق جرى التسويق لدريان اقليمياً، وقالت مصادر دار الفتوى ان «السنيورة طلب موعداً من شيخ الازهر احمد الطيب لتزكية دريان، الا ان الموعد لم يحدد له». لم تكن التحركات الاقليمية محصورة بالسنيورة فقط، اذ قالت مصادر مقربة من قباني انه «طُلب من القيادات السنية في قوى الثامن من اذار التسويق لدريان ايضاً، لذلك لم يستمر المفتي في معركته ضد تيار المستقبل لانها من دون اي غطاء سياسي». ومع اتفاق الاطراف الاقليمية على دريان، كانت الجماعة الاسلامية وحدها في حالة ضياع بين السير مع المستقبل في مخططه او معارضة توجه التيار. لذلك عقد مجلس الشورى في الجماعة اجتماعاً منذ يومين قالت مصادر انه «شهد سجالا حادا بين رافضي الخضوع للمستقبل لان الجماعة محاصرة داخل الهيئة الناخبة وبين من يريدون السير بما يريده السنيورة». اضافت المصادر لذلك «صوت اعضاء الشورى وكانت النتيجة لصالح التصويت لدريان». وبذلك، تكون الجماعة قد تخلّت عن شركائها في هيئة العلماء المسلمين الذين اعتصموا امس امام مقر المجلس الشرعي، خلال انعقاد الهيئة الناخبة برئاسة الرئيس تمام سلام.
بعد عملية فرز الاصوات واعلان فوزه القى المفتي الجديد كلمة رسمت معالم السياسة الجديدة لدار الفتوى. اذ أكد ان «لا مجال بعد اليوم للانقسام بين المفتي والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، وقد تلقينا درسا بل دروسا في هول ما يحصل عندما يحدث الخلاف والانقسام، ولذا فأنا مصر اليوم وغدا على العودة الى مسار ومسيرة الألفة والوحدة والعمل بقدر الوسع والطاقة مع المجلس الشرعي لاستدراك ما فات، والاستعداد لما هو ضروري وآت». وقال انه في الفترة المقبلة «سيكون علينا إعادة بناء المؤسسات من طريق الانتخاب، بدءا بالمجلس الشرعي والمفتين المحليين والمجالس الإدارية للأوقاف، وسائر الجهات التي تناولها المرسوم الاشتراعي رقم 18 للعام 1955، أو تناولتها قرارات المجلس الشرعي ومقترحات لجانه المتخصصة». هذا على الصعيد البيت الداخلي. اما في ما يتعلق بالتوتر الطائفي فقال دريان ان «هذه الدار كانت وما تزال دار مصالحة، والمصارحة بقصد المصالحة تقتضينا القول إن العلاقات بين الشيعة والسنة ليست على ما يرام، وأنا على يقين أن أحدا منا سواء أكان رجل دين أو سياسيا ما قصد الإساءة إلى وحدة المسلمين أو اللبنانيين، لكن وقعت الواقعة، وتفاقمت النزعة المذهبية والطائفية، وظهر عندنا وعندهم غلو كثير، إن ما يجري بالعراق وسورية ولبنان واليمن وليبيا هول هائل، وما نصنعه بأنفسنا يكاد يعجز عن صنعه الإسرائيليون في غزة وفلسطين، ولا علة لذلك غير الطغيان والتطرف: فهل نقعد عن أداء واجب المبادرة». أضاف: «لا بد من المبادرة. أعلم أن عديدين منكم حاولوا ويحاولون، وسأتشاور معهم ومع القيادات الدينية اللبنانية والعربية في ما يمكن عمله لمواجهة هذا الشر المستطير». اما في ما يتعلق بمكافحة الخطر التكفيري فقد أكد دريان أن «التعليم الديني في مدارسنا الدينية ومعاهدنا وكلياتنا يعاني من علل كثيرة. نعم ، لدينا تفلت كثير وكبير، ولدينا من جهة ثانية تشدد وانكماش وغربة وغرابة (...) ويضج مجتمعنا الإسلامي واللبناني بالشكوى، وبخاصة في مجال التشدد والتطرف، ديننا دين الاعتدال، وديننا دين التسامح والعيش المشترك، ولست أزعم أن التربية الإسلامية لو استقامت ستعالج كل مشكلات التطرف، لكن لنقم بمهماتنا الإصلاحية، ثم لنطالب الآخرين بالقيام بواجباتهم». وسأل «كيف يرغم المسيحي بالموصل وغير الموصل على ترك الدين والدار، وتتهدد حريته وكرامته وحياته من هذه الجهة أو تلك وباسم قهر فاجر ما أنزل الله به من سلطان؟ إن الدفاع عن الدين والوطن والعيش المشترك يقتضينا نحن اللبنانيين جميعا، ونحن العرب جميعا، أن نقوم معا بالواجب الديني والأخلاقي والوطني والعربي في مكافحة هذه الفئة الباغية على المسيحيين كما كافحنا ونكافح هذا التطرف دفاعا عن ديننا وإنساننا». وشكر المفتي الجديد الملك السعودي عبدالله قائلاً «نحيي مبادرة خادم الحرمين الشريفين ونقدرها، نطمئنه ونطمئن اللبنانيين إلى أنه لن يغير من طبيعتنا الطغيان ولا العدوان ولا التطرف ولا الإرهاب، وسنبقى اللحمة والبلسم في لبنان ومن أجل لبنان، ولن يخرجنا عن طورنا أحد أو حدث أو جور أو استئثار أو عنف». بعد كلمته زار المفتي دريان، قباني في زيارة بروتوكولية وانتقلا معاً الى منزل الرئيس سعد الحريري الذي اولم على شرف المفتي الجديد. وقالت مصادر مقربة من قباني ان «لقاء الحريري بقباني ودريان كان جيدا جداً». اما عن عدم حضور قباني الى دار الفتوى للمشاركة في العملية الانتخابية فقال مقربون من المفتي ان «لا حاجة لذلك لأنه لا يحق له التصويت».