بعد انتخابه أميناً عاماً لحزب الله، خلفاً للشهيد السيد عباس الموسوي، كان السيد حسن نصرالله لا يزال في سن الثانية والثلاثين. كان شديد الحساسية إزاء الدور الموكل إليه. صار الرجل في مواجهة العالم كله؛ ناسه وأهله والمريدون من جهة، والجاهلون به وبحزبه من جهة أخرى، والأعداء والخصوم على أنواعهم وكثرتهم من جهة ثالثة.
لم يكن ممكناً، لمن لا يعرفه مباشرة، إدراك حجم التجربة التي خاضها الرجل قبل توليه هذه المهمة. كان، ببساطة، قد أمضى نصف عمره في ذلك الوقت، أي 16 سنة، في مواجهة تحديات الحياة العامة، وفي اختبار قدرته على تحقيق طموحاته كشاب، وفي انخراطه المبكر في عملية نضالية فيها كل شيء، من السياسة والدرس والتحصيل العلمي وبداية العمل التنظيمي، ومتابعة العمل الجهادي، إضافة إلى دور تعبوي كان مدخله المباشر إلى عقول وقلوب آلاف المريدين والمناصرين، وكانت إطلالاته اليومية مع المناصرين اختباره المفتوح لصقل موهبة الخطابة لديه.
من خارج الحزب، تساءل كثيرون عن هوية الشاب الذي لم يظهر سابقاً في وسائل الإعلام، ولا في بيانات أو أنشطة.

تساءل كثيرون
عن هوية الشاب الذي لم يظهر سابقاً، أما داخل الحزب، فكان هو القائد المطلوب

أما داخل الحزب والبيئة اللصيقة، فكان هو النجم الذي تجتمع فيه أبرز مواصفات القائد المطلوب في تلك اللحظة. جاءت تزكية السيد علي الخامنئي لاختياره أميناً عاماً كلمسة نهائية، على قرار لم تعترضه أي مساجلات أو استفسارات داخل الجسم القيادي في الحزب. وخلال وقت قصير، انطلق الرجل في إدارة أكبر عملية تطوير لأكثر الأحزاب العربية تنظيماً ودقة وإنتاجاً. وهي عملية استوجبت منه التفرغ كلياً، بحيث لا يبقى مجال لأمور أخرى يحب الناس القيام بها، وهو منهم.
ميزة السيد حسن أن من يتاح له متابعته، بدقة عالية نسبياً، يلمس حجم التطور الذي طرأ على منظومة التفكير عنده: كيفية تلقي الأحداث، كيفية التعامل معها بهدوء، كيفية إشعار من حوله بأن كل شيء قابل للاستيعاب، كيفية جعل العقل مسيطراً على كل الجهاز العصبي. لا يتعطل القلب، ولا إيمانه العميق بالقدر الإلهي، لكن التوازن مع العقل يسمح بالسيطرة على الموقف، والتحكم في معظم مفاصله، واتخاذ القرار الأقرب إلى الصواب، وفوق كل ذلك، الاستعداد لتحمّل المسؤولية.
هل يعرف الناس معنى ألا يكذب هذا الرجل أبداً. معنى أن يجامل ويمازح ويستوعب من دون أن يخالف اقتناعاته الراسخة. معنى أن يحفظ أصل الصورة، رغم كل الطبعات والتحديثات. معنى أن يبقى واقفاً على رجليه، بينما يرسمه الناس أيقونة معلّقة في السماء. معنى ألا يتجرأ الفساد أو الزهو أو الغرور أو الكذب أو الممالأة على الاقتراب من عقله وقلبه.
خلال عشرين سنة، وتحديداً بعد حرب تموز 1993، بنى السيد من حوله آليات عمل وفرق مساعدين، وحشداً من العاملين في هيكلية شديدة التعقيد. ورغم كل التوسع البشري والتنظيمي والعسكري والأمني والمادي الذي أصاب الحزب خلال ربع قرن، فإنه لا يزال العالم المجهول على الأقربين كما على الأبعدين. هو العالم الذي يحفظ السيد سره. صحيح أن عملية تقديسه هي الأكثر إيذاءً له ولتاريخه ولحاضره، لكن الصحيح، أيضاً، أن هذه الهالة لم تؤثر في قناعته، ولا في حساباته، بل تحولت عبئاً حقيقياً. هل يعرف الناس، حقاً، أنه يخشى على مشاعر شخص أو مجموعة إذا ما كان كلامه حاداً أو قاسياً؟
لكن أين هو اليوم، وفي أي موقع يعمل؟ كثيرون لن تعجبهم حقيقة الدور الكبير الذي يتصدى له الرجل. ثمة حقائق لن تخرج من فمه يوماً على الإطلاق، ولن يكون مسروراً إذا ما سمع تكرارها من حوله... لكنها الحقائق التي تزيد من الطمأنينة عند حشد كبير، وكبير جداً من الناس، وتزيد من القلق، عند كل حشود الأعداء.
اليوم، يتابع السيد حسن ملف المقاومة في لبنان، وملف لبنان بكل تشعباته. هو في قلب القرار الذي سيرسم مستقبل الصراع مع إسرائيل. هو في قلب القرار الذي يرسم مستقبل سوريا. وهو صار، أيضاً، في قلب المشهد الذي يقود العراق في هذا الاتجاه أو ذاك، وهو في قلب المشهد الحساس جداً، والشديد التعقيد الذي يلف الجزيرة العربية، من شمالها إلى شرقها إلى جنوبها. وهو جزء أساسي من معادلة تفرض عليه أن يكون حاضراً، شخصياً أو عبر ممثلين، في أكثر من دائرة عمل تخص منطقتنا العربية والإسلامية. والثقة التي يحظى بها من قبل قادة وجماعات وجمهور، تجعله أكثر حذراً، وأكثر دقة، وأكثر حرصاً، ولو أنه يكرر دائماً إيمانه بـ«اليقين الذي سيقودنا إلى النصر»!
هل يعرف الناس أي سلطة موجودة في يد هذا الرجل؟