صحيح أن ليس كل ما يعرف يقال، وأن ليست كل حقيقة صالحة للقول. لكن الصحيح أيضاً أن بعض الحقائق يجب أن تقال، خصوصا تلك التي تضيء على خطأ. وبالأخص تلك التي في إضاءتها إمكان اعتبار وتصحيح وتقويم. فكيف بتلك التي يكون خطأها متمادياً في الزمن وحاضراً في أحداث اليوم والغد. لقد كتب الكثير عن معركة عرسال، وعن مأساة 2 آب الماضي. وقيل سراً أكثر بكثير، عما حصل ذاك النهار وذلك الليل، في المكاتب والقصور والمقرات.
فيما كانت هذه الزاوية قد أعلنت على غلاف «الأخبار» في 10 تموز الماضي، عن تقرير مفصل حول «اجتياح داعش للبنان من عرسال». والزاوية نفسها كانت قد عرضت في 31 تموز نفسه، أي قبل 48 ساعة فقط من معركة عرسال، لمعلومات أوروبية كانت قد أصبحت في حوزة المسؤولين اللبنانيين، مدنيين وعسكريين، عن عملية خطف جماعية تعد لها جهات إرهابية أصولية، للمطالبة بإطلاق سراح الإسلاميين الموقوفين في سجن روميه...
لكن الكلام الأهم اليوم هو أن سلامة الوطن أولوية، وأمن الناس وحياتهم أولوية. وهاتان الأولويتان هما ما يبرران التمسك المطلق بالجيش والدفاع المبدئي الكامل عنه، والسعي بكل الوسائل والإمكانات إلى تقويته ومؤازرته بكل ما يلزم ويتاح، تسليحاً والتفافاً، قراراً وتغطية، سياسة وميداناً، كحصن عن الوطن والناس، لا كصنم فوق الناس وبدل الوطن.
لماذا هذا الكلام الآن؟ لأن عرسال ومحيطها وربما مناطق أخرى في لبنان، قد تكون على مواعيد أخرى وشيكة مع استحقاقات الدم. ولأنه، في هذا السياق، يكفي استعراض ما حصل في الساعات القليلة التي تلت مذبحة 2 آب. وعلى قاعدة تقنين الحقائق، إلا بما يجدي ويفيد، يكفي استعراض ثلاث وقائع:
أولاً، قائد الجيش في مجلس الوزراء، بعد ساعات على اندلاع معركة عرسال، يروي دقائق ما حصل هناك، استناداً إلى ما يفترض أن تكون قيادته قد وفرته له من معلومات. يقول للسلطة التنفيذية التي يخضع لها: لم نكن نعلم أننا بصدد توقيف إرهابي كبير. حتى أن عناصر الحاجز الذي اعترضه لم يكن يملك أي قرار بتوقيفه. فجأة وصل هذا الرجل ــــ والمقصود عماد جمعة ــــ إلى الحاجز، ترجّل من سيارته، تركها وسط الطريق وراح يركض بعيداً عنها وعن عناصر الحاجز. ما كان من هؤلاء إلا أن لحقوا به، فأوقفوه، لمجرد اعتقادهم بأنه ترك سيارة مفخخة أو يحاول تنفيذ عملية إرهابية. تابع قائد الجيش: فور توقيفه بدأ الرجل بالاعتراف بالمخطط الموضوع من قبل جماعته لاجتياح بعض المناطق اللبنانية. من دون أي ضغط ولا أي إكراه ولا صفعة كف، أدلى بكل اعترافاته، بالوثائق والتفاصيل...
ثانياً، في الساعات التي سبقت كلام قائد الجيش أمام مجلس الوزراء، وفي شكل متزامن مع استمرار الاشتباكات بين الجيش والمسلحين التكفيريين في عرسال، كان رئيس الحكومة تمام سلام يبلغ المشايخ السلفيين الداخلين على خطوط الاتصال مع التكفيريين، بأن جمعة كان سيطلق سراحه خلال ساعات قليلة أعقبت توقيفه. لأن التحقيقات معه لم تظهر ما يستوجب الاستمرار في احتجازه. غير أن اندلاع المعارك في عرسال وقيام جماعته بشن هجمات على الجيش والمواطنين وخطفهم مدنيين وعسكريين، عقّد الوضع وعطّل إخلاء سبيله...
ثالثاً، بعد أيام قليلة على كلام المسؤولين اللبنانيين، كان رئيس الحكومة السابق سعد الدين الحريري، يبلغ وزيراً سابقاً يزوره في بيته، بأن لديه معلومات كاملة، عن أن جهة لبنانية رسمية افتعلت معركة عرسال من ألفها إلى يائها...
وقائع ثلاث متروكة لأيام أخرى، لجلاء ملابساتها وإيضاح ما هو حقيقة فيها وما هو عكسها. إذا قدر لنا أن نبني يوماً بلداً ودولة. لكن الآن، وفي ضوء تلك الوقائع بالذات، لا يزال الخطر داهماً جاثماً قبالة عرسال. آخر المعلومات الرسمية، الحكومية والأمنية، أن نحو 3 آلاف مسلح تكفيري على الأقل، انضموا إلى رفاقهم هناك في الأسابيع الأخيرة. وأن استعدادات التكفيريين في جرود عرسال قد تتجه إما شرقاً لإعادة احتلال القلمون السورية، وإما غرباً لاحتلال عرسال مجدداً، أو أكثر من عرسال. أما السبب الدافع والضاغط للقيام بخطوة من الاثنتين، فهو استباق فصل الصقيع والثلج، واستحالة البقاء في الجرود أكثر من أسابيع قليلة مقبلة.
ماذا يعني ذلك؟ بكل بساطة، أن أمام لبنان، بحكومته وسلطاته المختلفة وشعبه ومقاومته، فترة زمنية محدودة للاستعداد لصدّ الموجة التكفيرية التالية. هي فترة قد لا تكفي لصحوة، إذا استمرت إضاعة الوقت وهدر الفرص والمقدرات والتلهّي بالتفاهات والسخافات. وهي فترة قد تكون أكثر من كافية، إذا ما عبئت ثوانيها بجَد وجهد. وأول الجد قراران على المستويين السياسي الحكومي، والعسكري الميداني. ميدانياً، ودائماً على قاعدة تقنين الحقائق وتقتير ما يعرف، إعادة هيكلة الوحدات التي خاضت المعركة الأولى. ومصارحة السلطات السياسية المعنية بأن رضوخها لضغوط التكفيريين، في ما يتعلق بحركة «افواج» الجيش، أكثر من معيب، لا بل عار وخيانة عظمى! ثم إعادة الوضع في عرسال إلى ما كان عليه من تقدم ميداني حققه الجيش بفضل تضحيات شهدائه وأبطاله في اليوم الثالث من المعركة. وعدم التساهل أو التراخي في موضوع بعض التلال ــــ التي يعرفها جيداً المعنيون ــــ والتي تضمن للجيش مدى رماية كافياً لصد أي هجوم.
أما حكومياً، فطرح الموضوع سريعاً على طاولة مجلس الوزراء، لجهة إقامة غرفة عمليات ثلاثية فورية، بين الجيشين اللبناني والسوري والمقاومة، تحضيراً للمعركة المقبلة. قرار تغطيه المعاهدات الثنائية، ويغطيه قرار مجلس الأمن رقم 2170، ويغطيه اعتراف تمام سلام بعلي عبد الكريم علي واستقباله في السراي كممثل لرئيس سوريا. وتغطيه الضرورة الوطنية والمصلحة الوطنية المسماة الحكومة باسمها... الوقت يمر. أيلول بدأ ماطراً. الجنرال ثلج يقترب. لا بد من جنرال لإبادة جراده.