في ريف مدينة جبلة بسكونها الأزلي، بين الغيوم السارحة على ارتفاع 1300 متر عن سطح البحر، اختار الكاتب والشاعر السوري وفيق خنسة أن يلتقينا. رغم ابتعاده كلياً عن الظهور الإعلامي، وإقامته في مدينة اللاذقية حيث يتردد بنحو شبه يومي على المقاهي المتاخمة للبحر، إلا أنّ للقاء في قريته بشيلي طعماً آخر. هناك، يسرح النظر بين البيوت الريفية على الجبال الخضراء، تنتصب الحجارة القديمة بقِدَم المكان، كأنّها شاهد حي على طيبة أهل القرية النائية، ورحابة صدورهم، وحسن ضيافتهم. سيكون أمامنا متسع من هدوء الليل للحديث أمام إطلالة القرية الساحرة على مدن الساحل الذي يبدو من هناك ككفِّ بدوية، يتعرّف للتو إلى رونق الذهب. برفقة صديقيه المقربين المخرج التلفزيوني المعروف أحمد إبراهيم أحمد، والمتقاعد أبو مظفر
، وفي منزل الأخير، يختار خنسة أن يستعيد بعض محطات حياته الغنية. جلسنا هناك كأننا نستمع إلى قصة...
لم يكن علينا سوى أن نضغط على زر التسجيل، ونترك الكلام له، ليحكي لنا سيرته، بأسلوب مشوّق. بدأ كلّ شي في قريته الجميلة التي مثّلت جزءاً من شخصيته. تأثر بكرم مشايخها، وحفظ النصيحة القروية التي كانت والدته ترددها على مسامعه، وسار عليها طوال حياته: «اثنان لا ترافقهما: الكذاب والبخيل».
عندما قرأ قصيدة «قصة كرم» للشاعر الحطيئة في كتب الصف الأول الثانوي، أعجبته، لكنّه ظل لا يفهم معناها زمناً طويلاً. وكان يسأل نفسه دوماً عن سر إعجابه بهذه القصيدة، حتى فهم أنّ الكرم هو ما شدّه لها، حتى نشر عنها دراسة خاصة في الصحافة الليبية. حين اقترح عليه صديقه أحمد ابراهيم أحمد كتابة سيناريو لمسلسل تلفزيوني، اختار خنسة أن يتناول سيرة رمز الكرم العربي حاتم الطائي... وضع عليه اللمسات الأخيرة، وسيبدأ صديقه المخرج بتصويره قريباً.
بدأ وفيق خنسة حياته المهنيّة مدرّساً في مدينة الرقّة. بعدما أنهى دراسته الثانوية في محافظة القنيطرة، التحق بعمه الذي كان يعمل هناك، ودرس الفلسفة. مثل كثيرين من أبناء جيله، حفرت هزيمة 67 عميقاً في وجدانه، لكنّها لم تخلِّف تشاؤماً لديه. على العكس، كتب قصائد توحي بالفرح، حتى تحقق نصر أكتوبر 1973... نصر عدّه خنسة بدايةً لتصفية قضية فلسطين. كتب يومها قصيدة بعنوان «غسان كنفاني في شرفة تشرين»، لم تنشرها سوى دور النشر الفلسطينية... نسأله عن سبب مقاربته تلك لحرب تشرين، فيرجئ الإجابة «إلى جلسة خاصة لا يمكن أن تحتملها جلستنا هذه». لكنّ أكثر الأحداث السياسية التي تركت أثراً فيه، هي المواجهات الدامية التي حصلت عام 1982 مع جماعات الإخوان المسلمين. «قد تكون هذه الأحداث ما جعلني أعلن إيماني المطلق بأن الحرية لا يمكن أن تولد من المذاهب، ولا من العشائر، ولا من المجتمعات الأهلية، ولا من الجيوش... الحرية فهم تاريخي مسؤول، قائم على العقل، والإرادة الحرة. خارج هذا الإطار لن يتحرر أحد». شعر خنسة يومذاك بأنه لم يعد له مكان هنا في غياب الحوار والديموقراطيّة وفي ظلّ الفهم الخاطئ للدين. هنا يعرّج على أفكار تعلّمها من أحد مشايخ قريتهم الذي كان يجزم بإيمان جان بول سارتر مثلاً؛ «لأنه مفكر يريد من علمه إفادة غيره، والحديث يقول: الخلق عيال الله وأحبكم إلى الله أنفعكم لعياله».
كان وفيق خنسة قريباً من بعض الحركات اليسارية، فقد اعتنق الماركسية، وكان متحمساً لانشقاق «الحزب الشيوعي السوري»، وقريباً من الناصريين في بعض الأحيان. وحده حزب «البعث» لم يستهوه، رغم أنه كان صديقاً للكثير من البعثيين.
الحياة الاستثنائية التي عاشها في طفولته وسحر الطبيعة وغناها، خلق لديه شغفاً بالكتابة، جعله يطلق ديوانه الشعري الأول «إشارات متنافرة على وجه الحاضر» (1970)، في وقت مبكر من عمره. «أنظر اليوم إلى الخلف، فأجد نفسي راضياً عن كل خياراتي، ولا أشعر بالندم على أي خطوة، لكنني أعرف أن بعض الدواوين الشعرية التي أصدرتها لم تكن ذات مستوى جيد، وخصوصاً ديواني الأول الذي حمل صورة شعرية واحدة فقط كانت موفقة». يعترف خنسة أيضاً بأنّ بعض دواوينه الأولى طغت عليها الشعارات والهتافات السياسية.
إلى جانب كتابة الشعر، زاول مهنة الصحافة. كانت الانطلاقة في ملحق «الثورة» الثقافي مطلع عام 1976، بقراءة نقدية لديوان أدونيس «أغاني مهيار الدمشقي». منذ ذلك الحين، واظب على النشر في الصحافة السورية، ثمّ أصدر كتابه «دراسات في الشعر السوري الحديث» عام 1980. عمله المرجعي ما زال يدرّس حتى الآن في جامعة وهران، ويعدّ كبار الشعراء العرب مؤلِّفه واحداً من أهم نقاد الأدب السوريين، وعلى رأسهم صديقه أدونيس. أحدثت تلك الدراسة الأكاديمية المتينة نقلة نوعية في حياة خنسة؛ إذ رُشِّح للتدريس الجامعي في اليابان، وتحديداً في «جامعة طوكيو للغات الأجنبية ــــ قسم الدراسات العربية».
غادر إلى إمبراطوريّة الشمس الشارقة عام 1986، ودرّس اللغة العربية هناك لمدة أربع سنوات. نجحت جهوده في تحويل القسم الذي يدرّس فيه إلى واحد من أهم الأقسام في الجامعة، ما جعل إدارتها تدعوه مجدداً عام 1998 لتقديم سلسلة محاضرات. «هناك تعرفت إلى شكل آخر للعالم ـــ يقول ـــ يتوافر فيه كل ما يمكن أن تنتجه البشرية من الشرق إلى الغرب... باستثناء البرغل طبعاً، والشنكليش الذي تشتهر به ضيعتي».
ذات مرة، طلب منه أحد أصدقائه أن يؤلف كتيباً عن المتنبي للأطفال... كانت مهمّة صعبة؛ إذ قرأ نحو 12 ألف صفحة، ليخرج بكتيّب صغير يحمل عنوان «أبو الطيب المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس» عام 2008. قبل ذلك، كان قد أصدر كتاباً للأطفال هو «شجرة التوت» عام 1979، وعاد أخيراً لينشر مجموعة قصصية للأطفال بعنوان «حدائق إنانا». وفي عام 2004، أصدر ديوان «أحاديث النهار». بعد عودته من اليابان، صارت إصداراته أكثر غزارة، هكذا أنجز دواوين عدة منها «قصيدة هيروشيما» (2001)، ومجموعتين قصصيتين هما «حقول الدم»، و«بيدر حب» (2009)، إضافةً إلى إصداره ديوان الشعر المحكي «حرشة حكي» (2008).
على المستوى السياسي، ورغم وقوفه طوال حياته في خندق معارضة النظام، إلا أنّ خنسة يدقق كثيراً في حقيقة ما يحدث في سوريا اليوم. يلقي باللوم على غياب الحوار بين السلطة والمعارضة. «كنت ولا أزال راغباً في تغيير النظام في سوريا... لكن عندما يكون البديل فوضى، أو حرباً طائفية أو عدواناً عسكرياً على سوريا من حلف الناتو، فأنا مع هذا النظام. المبدأ يفرض علينا الخيار الوطني».
يطول الحديث حتى تباغتنا إشراقة لافتة لخيوط الفجر الأولى، وهي تعانق البحر. ننهي الحديث، على أمل أن تكون له تتمة في وقت لاحق. نودّع وفيق خنسة وقد ازداد استغرابنا: لماذا يتعرّض لكلّ هذا الإقصاء من المشهد الإعلامي في سوريا؟



5 تواريخ

1946
الولادة في قرية بشيلي، ريف جبلة
على الساحل السوري

1970
باكورته الشعرية «إشارات متنافرة
على وجه الحاضر»

1986
سافر إلى اليابان ليدرِّس اللغة العربية
في «جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية»

2008
كتاب للأطفال بعنوان «أبو الطيب المتنبي مالىء الدنيا وشاغل الناس»

2011
أنهى كتابة سيناريو مسلسل تلفزيوني عن سيرة حاتم الطائي