لم يكن في الغرفة سوى ثلاث أرائك للنوم وتلفاز وغاز صغير ومصحفين. هي كل مقتنيات ما سموه «المقرّ». كانت مياه الأمطار تتسرّب من بعض الشقوق في أوّل مركز أقامته «جبهة النصرة» في مدينة القصير في ريف حمص. كان عناصرها قلّة لا يتجاوزون السبعة، «يتحنّن عليهم داعمو الثورة ببعض المساعدات». فحمص، كانت آخر المحافظات التي دخلتها «القاعدة»، لتبدأ التأسيس فيها لـ«رحلة الجهاد».
خارج هذا المقر، كان قد سبق عناصر «النصرة» هؤلاء، ستة موفدين أرسلهم «أبو محمد الجولاني»، بإمرة شخص يلقّب بـ«أبو العيناء». اتّخذوا من القصير مركزاً، ثم بدأوا بدعوة المسلّحين إلى مبايعة التنظيم. قُتِل «أبو العيناء» بعد وقت قصير ليولّى «أبو البراء الشامي» إمارة «النصرة» في حمص، وإلى جانبه كان الشيخ «أبو مالك التلّي» (من مدينة التل في ريف دمشق). كان هذا الثلاثي العصب الأساس الذي غرس «البذرة الأولى» لـ«القاعدة» في محافظة حمص (إلى جانب الشيخ «أبو جندل الحمصي»، الذي قُتل في مطار الضبعة في ريف القصير).
كانت معظم المسلّحين في حمص منضوين في صفوف «كتيبة الفاروق»، التابعة صورياً لـ«الجيش السوري الحر»، التي كانت حاكمة هذه البقعة من سوريا. استمر الأمر على حاله حتى تنفيذ أحد عناصر «النصرة» «أكبر عملية استشهادية في تاريخ سوريا»: في 23 كانون الثاني عام 2013، قاد السوري «أبو إسلام الشامي» شاحنة مجهّزة بعشرين طناً من المتفجرات، استهدف بها ثكنة المشتل في القصير. في أعقاب هذه العملية، ارتفعت أعداد المنضوين إلى صفوف «الجبهة». في ١٩ أيار من العام نفسه انطلقت معركة القصير. انكفأ مسلّحو المعارضة عن المدينة وريفها بعد أكثر من أسبوعين من المواجهة مع مقاتلي حزب الله. اضطرّ عناصر «النصرة» إلى الانسحاب مع المجموعات التي تراجعت بناء على قرار «كتيبة الفاروق». رأت «النصرة» أن قيادة «الفاروق» غدرت بها، و«خانت الثورة بانسحابها».
بعد القصير التي شهدت بدايات «النصرة» في المنطقة، بدأت مرحلة جديدة من عمر التنظيم. تراجع مقاتلوه باتجاه القلمون، الذي تمكنوا من السيطرة على قراه من دون مقاومة تُذكر من قبل قوات الجيش السوري، باستثناء معركة وحيدة في رنكوس. وعلى هامشها، وقعت بعض المناوشات في المرحلة الأولى مع «حركة أحرار الشام»، بسبب التنافس على «حكم رنكوس».
بدأت «النصرة» في بناء قواها. انسحب عناصرها نحو يبرود، حيث أُنشئت معظم المقارّ. في تلك الفترة، جرت تنحية «أبو البراء»، ليتسلم زمام القيادة على رأس «النصرة» أبو مالك التلّي. لم تُعرف أسباب التنحية، لكن البعض يردّها إلى الاشتباه بضلوع الاول في قضايا فساد، لم يثبت شيء منها عليه لاحقاً.

قضى 13 عاماً في السجون السورية وتعرّف إلى الجولاني
في صيدنايا
و«أبو مالك»، في العقد الخامس من العمر. إسلامي منذ ما قبل الحرب السورية. وبسبب نشاطه «الجهادي»، سُجِن فترة طويلة (يقول مقربون منه إنه قضى 13 عاماً في السجون السورية). في سجن صيدنايا، تعرّف إلى «أبو محمد الجولاني»، أمير «جبهة النصرة» (تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الشام). وخرج «التلّيّ» من السجن بناءً على العفو العام الذي أصدره الرئيس السوري بشار الأسد عام 2011.
في القلمون، اشتدّ عود «الجبهة». أمسكت القيادة الجديدة بإمرة «أبو مالك» بمفاصل باقي التنظيمات. الرجل الذي بدأ مشواره العسكري كقنّاص، سيُصبح الرقم الصعب في المواجهة الشاملة. كانت «النصرة»، بنظر متابعيها عن قرب وبعض داعميها، «الأكثر صدقاً والتزاماً اتجاه قضيتها، مقارنة بباقي الفصائل التي كانت أقرب إلى عصابات عشوائية». جمع عناصرها السلاح وصنّعوه في معامل بدائية أنشأوها. راكموا فوق عتادهم غنائمهم من الأسلحة النوعية، كصواريخ كونكورس المضادة للدروع من مستودعات الجيش السوري (وخاصة مستودعات مهين). أجبروا باقي الفصائل على الالتزام بأوقات محددة للمواجهة مع الجيش السوري، وفرضوا على آخرين شروطاً للقتال تحت رايتهم ولاقتسام «الغنائم». هكذا، وفي مقابل، صعود التنظيم انطمس دور «الكتائب» المحلية. كان دور «النصرة» الإضافي في عهد «الأمير أبو مالك» أقرب إلى «قوات فصل»، إذ تولّت حل الكثير من المشاكل التي كانت تنشأ بين الجماعات المعارضة. كذلك فإن تجربة الأهالي الصعبة مع بعض المسلّحين، جعلتهم يلجأون إلى مقاتلي «تنظيم القاعدة» في القلمون.
سطع اسم «أمير النصرة» في ملف راهبات معلولا. جيّر الرجل الصفقة لمصلحته. وبعدها بأيام، قاد «أبو مالك التلّي» معركة القلمون في مواجهة الجيش السوري وحزب الله. لم تصمد الكتائب المقاتلة تحت إمرته طويلاً. سقطت يبرود في يومين، بعد أسبوعين على اندلاع المعارك في المنطقة. انسحب المسلّحون إلى الجرود. ومن هناك، بدأوا باستجماع القوى لخوض معركة «تحرير قرى القلمون»، وهي المهمة التي لم ينجحوا، حتى الآن، في تنفيذ ولو جزءا منها.
تميّزت «النصرة» في معظم المناطق السورية، عن تنظيم «الدولة الإسلامية»، بالتكتيك. وبرغم أن عقيدة واحدة تجمع التنظيمين، إلا أن عناصر الأولى أخذوا بـ«فقه الواقع»، أي أقاموا اعتباراً للظرف والوقائع. وقد جعل منهم ذلك أكثر ليونة من غيرهم. انتبهوا متأخرين إلى سلبيات عرض مشاهد القتل والذبح، فاتخذ المجلس الشرعي في «النصرة» قراراً بمنع نشر صور لعمليات الإعدام التي ينفّذها التنظيم وبإخفائها، وإذ أكّدوا شرعيتها وحليّتها، إلا أنهم اقتنعوا بأن نشر صورها يؤدي إلى تنفير المسلمين وغير المسلمين من الدين.
ومنذ بدء الشقاق بين «النصرة» و«الدولة» في الميدان السوري، تميّز الفرع القلموني لتنظيم القاعدة عن أشقائه. ومع وصول أعمال القتل والتصفية المتبادلة إلى مستوى غير مسبوق، خرج «أبو مالك التلّي» ببيان يرى فيه أن «كل من يعتدي على أحد من إخواننا في الدولة كأنما يعتدي علينا». أعطى ذلك انطباعاً بأن التلّي يتمتع بهامش حرية مستقل عن القيادة المركزية، لجهة العلاقة مع تنظيم «الدولة». وعززت ذلك علاقة الصداقة التي تربطه بـ«أمير الدولة» السابق في القلمون أبو عبدالله العراقي، رفيق درب أبو مصعب الزرقاوي في العراق.
على الساحة اللبنانية، ذاع صيت «النصرة» عقب مواجهات القلمون وارتداداتها التي ضربت لبنان على شكل سيارات مفخخة وهجمات انتحارية استهدفت الضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع الشمالي. شدّ ذلك من عصب التنظيم، فاستقطب أفراداً من فصائل اخرى، كـ«كتائب عبدالله عزام» و«فتح الإسلام». برز بين هؤلاء العنصر اللبناني على مستوى العناصر والقيادة، كابراهيم قاسم الأطرش، الذي بايع لاحقاً «الدولة الإسلامية».
في قبضة التنظيم اليوم، «كنزٌ ثمين» بحسب مقربين منه. ثمانية عشر عسكرياً لبنانياً رهائن في قبضة القاعدة. يُوظّف الملف سياسياً وإعلامياً وفي المعركة العسكرية حتى. يطمح «أبو مالك» إلى تحصيل أكبر مكسب ممكن على كافة الصعد. «النصرة» لا تريد عرسال ساحة مواجهة، لكنها اعترفت علناً بأنها شريان حيوي لبقائها. تحاول الجبهة اليوم استعادة السيطرة على قرى القلمون. فشلت في أكثر من محاولة. وتشير معطيات الميدان إلى أن مخرج «النصرة» الوحيد سيكون مستقبلاً مغادرة هذه البقعة إلى منطقة اخرى في سوريا، كريف حمص أو حماه أو حلب او ادلب. وحتى ذلك الحين، سيبقى «أبو مالك» ممسكاً بخناق الدولة اللبنانية. «التلّيّ» هذا ليس خاطف الرهائن وحسب. هو اليوم الحاكم الفعلي لجرود عرسال، ولعرسال نفسها.