فجأة، اقتيد الشابان من دون أن يرتكبا أي خطأ. ربطهما «شباب المنطقة» وأركعاهما وسط الشارع. قرر هؤلاء أنهم لا يريدون أن يقطعوا الطريق بالإطارات المشتعلة، بل من الأفضل قطعها بشابين سوريين بريئين، من الأفضل إذلالهما وإهانتهما فقط لأنهما سوريان؛ حصل هذا على مدخل بعلبك الجنوبي. أمّا على مفرق القصر الجمهوري، فقد أرادت مجموعة من الشباب أن تُفرغ غضبها فأقدمت على حرق شاحنة بداخلها شابان سوريان. لا يُعرف ماذا حصل للشابين.
هل تمكنا من الخروج أم بقيا في الشاحنة؟ المعروف أن هذا المشهد كان يصوّره مواطنون تجمعوا حول الشاحنة ليتفرّجوا فقط. لا تنتهي الممارسات الهمجية هنا حتّى ولو أتت أخف إذلالاً. ففي الطريق إلى مار مخايل، حاول «أحمد» أن ينقذ نفسه من كراهيةٍ قرّر بعض اللبنانيين _ أيضاً من «شباب المنطقة» _ أن يُفرغوها على لاجئين ضعفاء. كان أحمد السوري الوحيد في الفان، لم تسعفه قدماه بالهروب. لحقه «الزعران» منادين عليه «إنت سوري يا...». أمسكوا به وأصبح العامل الضعيف بين أقدامهم لا يعرف من أين يُركل. ذنب أحمد أنه سوري في لبنان. وعلى طريق المطار، أراد «رعاع المنطقة أن يتسلّوا»، فتوجّه أكثر من عشرين شاباً على دراجاتهم النارية حاملين العصي، أوقفوا جميع السيارات وعلا صراخهم على السوريين بالنزول فوراً. لا يُعرف عدد الشبان السوريين الذين تعرضوا للضرب هناك، إلا أن التقارير الأمنية تقول إن أكثر من 53 تعدّياً وقع على السوريين في تلك المنطقة.
أمّا اللاجئون الذين لازموا بيوتهم وخيمهم فلم يسلموا من عنصرية اللبنانيين، إذ استفاقوا على مناشير ورسائل تعطيهم مهلاً للرحيل «وإلا...». يظهر هنا أيضاً توقيع «أهالي المنطقة»، «شباب المنطقة» و«اللجان الشعبية»، ما يعني إلغاءً كاملاً لدور الأجهزة الرسمية وبدء إنشاء خلايا أمن ذاتي في المناطق بغطاءٍ شعبي. المناشير التي وُزعت في زقاق البلاط ذهبت أبعد من ذلك، إذ كانت تهديداً وقحاً بالقتل: «سيؤخذ إجراء الذبح والتعذيب حتى الموت (لجنة زقاق البلاط)».

كأن الدولة
تقول لمواطنيها «تابعوا ما تفعلونه»

هكذا إذاً أطلق بعض اللبنانيين أحكامهم وغرائزهم على جميع السوريين: إنّهم «داعش». تناسوا أنّ هؤلاء مثلهم ضعفاء، فقراء، هربوا من موتٍ لا يهمّ من أي طرفٍ يأتيهم؛ يبقى الموت موتاً. أراد بعض اللبنانيين طرد اللاجئين خوفاً من استجرار خطر «داعش» إلى بلدهم، لكنهم أثبتوا أنّ ثقافة العنف والظلم والتمييز التي يمارسها «داعش»، ليست غريبةً عنهم، إنما تدخل في صلب ممارساتهم اليومية. اعتدى «الزعران» على أشخاصٍ مسالمين ألبسوهم ذنب جنسيتهم. نزعوا إنسانيتهم، وعوض مواجهة الجماعات المتطرفة التي ذبحت مئات السوريين قبلهم، قرروا الاستقواء على ضعفاء ليس لديهم من يحميهم في هذا البلد. الخوف والتهجير نفسيهما عادا إلى ذاكرة السوريين خلال الأيام الماضية وكأنّ ما ذاقوه ليس كافياً.
استيقظ وحش الكراهية في النفوس معلناً حربه على جميع السوريين، ضارباً عرض الحائط بشرعية الدولة وأجهزتها الراضية، على ما يبدو، عمّا يجري، إذ إنه حتى اليوم لم يتحرّك أحد لوضع حدّ لهذه الممارسات العنصرية. ما رأيناه من أفعال ضرب وإهانات في الشوارع تعدّت حالة الامتعاض التي تراكمت خلال ثلاث سنوات تجاه السوري نتيجة الضغوط وانسداد الأفق، لتخلق بيئة حاضنة للعنصرية والمذهبية عزّزها إحساس الناس بفقدانهم مرجعية الدولة وسلطتها. هذه البيئة أعادت إنتاج نظام اجتماعي يرتكز على الثأر بسبب انعدام الملاحقة القانونية والقضائية لمرتكبي الأفعال العنصرية، وكأن الدولة، بمختلف قواها السياسية، تقول لمواطنيها «تابعوا ما تفعلونه». انتشرت عدوى التهديد والضرب والمناشير في جميع المناطق اللبنانية، باعثةً القلق في نفوس اللاجئين الأبرياء الذين أصبحوا معرضين للخطر من دون أي ضمانة تحميهم، وأصبحوا كذلك معرضين للطرد وفق أهواء «الزعران». هذا المناخ التحريضي ضد السوريين ليس لحظوي، أي أنه لم ينشأ بسبب ذبح الجنديين، إنما وُلد نتيجة أبعاد عدة؛ أبرزها الغرور والشعور بالتفوّق اللبناني الذي نجح النظام في تغذيته، وتحديداً تجاه السوريين. كما أن الانقسام الراهن والاستقطاب السياسي الحاصل والمبني على الكراهية والعنف، ساهم بشكل كبير في إظهار عنف عنصري لدى اللبنانيين، إضافةً إلى أعباء اللجوء وما أوجده من تشنّج وتنافس بين اللبنانيين والسوريين. الدولة مطالبة حالاً بأن تخرج بموقف حاسم وجريء تعلن فيه ملاحقة كل من يتعرّض للسوريين في لبنان وإنزال أقسى العقوبات به من أجل الحد من الظلم. لكن ما لم يحصل ذلك، فإنها تُعتبر مشاركة في هذا الإجرام ومحرّضة عليه، عندئذ لن يقتصر العنف على السوريين، إنما سيمتد ويتوسّع لنتأكّد فعلاً من أننا أصبحنا في قلب دوّامة الحرب الأهلية.