لن يستطيع أحد أن يكسر عود النظام اللبناني الذي يتيح اختزال المشاريع الاجتماعية الشاملة بمشاريع فئوية. مشروع «التغطية الصحية للمضمونين المتقاعدين» هو مثال بارز على هذا الأمر الذي يكشف عن سلوك السلطة التدجيني وحرصها على استمرار نظام الزبائنية السياسية.
فالمشروع الذي طرحه وزير العمل السابق شربل نحاس قبل سنوات بعنوان «التغطية الصحية الشاملة المموّل من الضريبة» والذي يقدّم الرعاية الصحية لنسبة 100% من اللبنانيين المقيمين، استُبدل بمشروع لا يستفيد منه أكثر من 3000 متقاعد سنوياً، أي ما نسبته 1% من المضمونين المسجلين في الضمان و0.075% من اللبنانيين المقيمين. هو ببساطة «مشروع الهائي عن المشروع الكبير» في رأي الخبير الاقتصادي كمال حمدان.

ولادة من الخاصرة

قبل نحو سنتين، قدّمت نقابة الأطباء في لبنان طلباً إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يتضمن رغبتها في ضمان الأطباء وحصولهم على الرعاية الصحية بعد سن التقاعد. وعندما عُرض الموضوع على مجلس إدارة الضمان، «تلقفه» عضو المجلس وممثل الدولة رفيق سلامة موضحاً أنه يمكن توسيع هذا المشروع ليشمل كل المضمونين المتقاعدين وتنفيذ جزء من مشروع «ضمان الشيخوخة». فهذا الأخير يتضمن شقين: المعاش التقاعدي للمضمون، والرعاية الصحية بعد التقاعد.
طبعاً، مجلس إدارة الضمان لم يتعب نفسه في نقاش المشروع الأشمل والأكبر، أي التغطية الصحية الشاملة، فنظرته الضيّقة تعكس وجهة السلطة السياسية في لبنان حيث الأولوية لـ«تشقيف صحّة اللبنانيين بين الضمان، وبين وزارة الصحة، وبين مؤسسات أهلية طائفية وحزبية، وبين نظم التأمينات العامة المختلفة عن بعضها البعض» يقول الخبير الاقتصادي كمال حمدان.
بعد ذلك، قدّم عدد من نواب المستقبل اقتراح قانون بهذا الشأن وأقرّته لجنة الصحة أخيراً بعد جلسات جانبية قادها سلامة (محسوب على المستقبل) مع الاتحاد العمالي. المهم، إن جهابذة الضمان الاجتماعي في لبنان، سواء في الضمان أو في مجلس النواب، تمخّضوا فأنجبوا فأراً اسمه «التغطية الصحية للمضمونين الذين سيتقاعدون»، وهو يأتي من خاصرة «ضمان الشيخوخة» ويتضمن الآتي:
ــ يستفيد من تقديمات ضمان المرض والأمومة، بصورة إلزامية، المضمونون اللبنانيون الذين بلغوا السن القانونية للتقاعد أو أصابهم عجز كلي ودائم، وذلك سواء كانوا أجراء في القطاع الخاص أو الذين يعملون لحساب الدولة اللبنانية أو الأجراء اللبنانيين العاملين لدى مؤسسات زراعية.
ــ يجب أن يكون المضمون قد أمضى مدّة اشتراك فعلي في الصندوق لا تقلّ عن 20 سنة، وأن يكون مقيماً على الأراضي اللبنانية.
لا يستفيد منه الا ما نسبته 0.075% من اللبنانيين المقيمين

ــ يستفيد مع المضمون المتقاعد، أفراد عائلته بمفهوم المادة 14 من قانون الضمان الاجتماعي الذين يكونون على عاتقه بتاريخ التقاعد أو العجز (الوالد والوالدة بعد بلوغهم الستين عاماً، الأولاد الشرعيون والمتبنون حتى سن الـ18، وحتى سن الـ25 في حال إكمال دراستهم والأولاد ذوي الاحتياجات الخاصة). وفي حال توفي المتقاعد أو توفي المضمون قبل تقاعده بعد إكمال فترة الـ20 سنة، فإن الحق بالاستفادة ينتقل حصراً إلى الشريك بشرط ألا يكون قد تزوج ثانية، وألا يمارس مهنة حرّة وألا يكون مسجلاً في السجل التجاري، ويستفيد الأولاد حتى بلوغهم الـ18 سنة، وإذا كان الاولاد من ذوي الاحتياجات الخاصة وغير قادرين على تأمين معيشتهم بسبب الإعاقة فيستفيد من التقديمات من دون تحديد السن.

الاشتراكات والكلفة

وبحسب الدراسة الاكتوارية للمشروع التي أعدتّها إدارة الضمان لتأمين التوازن المالي لفترة تمتد حتى 50 سنة، فإن معدلات الاشتراكات اللازمة لتحقيق هذا التوازن يجب أن تكون على النحو الآتي:
ــ 3% توزّع بالتساوي بين المضمون (قبل التقاعد) وبين صاحب العمل والدولة.
ــ 9% يدفعها المتقاعد على أساس دخل مقطوع يساوي الحد الأدنى الرسمي للأجور (675000 * 9/100 = 60750 ليرة).
ــ تستمر الدولة بتسديد مساهمتها بنسبة 25% من قيمة الفاتورة الصحية.
ــ تتوجب الاشتراكات على الشريك المستفيد أو على الولد الراشد أو على الأولياء أو الأوصياء.
استندت هذه الدراسة إلى معطيات إحصائية حول أعداد الذين يصفون تعويضات نهاية خدمتهم بداعي بلوغ السن القانونية والبالغ عددهم 3000 متقاعد سنوياً، بالإضافة إلى متوسط كلفة المستفيدين «المسنّين» والتي تصل إلى 2.4 مليون ليرة سنوياً، وإذا أضيفت كلفة العائلة بمعدل 1.5%، فإن المتوسط يرتفع إلى 2.9 مليون ليرة. وقد أخذت الدراسة في الاعتبار زيادة عدد المتقاعدين بنسبة 1% سنوياً، وتضخم بمعدل 3% سنوياً وتضخم الكلفة الطبية بمعدل 4% سنوياً.
كذلك استندت الدراسة إلى توزّع المضمونين حسب شطري الراتب الأخير وقيمة التعويض المستحق لهم، إذ إن عدد المضمونين الذين لا تتجاوز تعويضاتهم أكثر من 25 مليون ليرة يمثّلون ما نسبته 63.5%، وأن الذين لا تتجاوز تعويضاتهم أكثر من 150 مليون ليرة يمثّلون 96%. أما متوسط قيمة التعويض على أساس متوسط الراتب الأخير البالغ مليوني ليرة، فهو يصل إلى 38 مليون ليرة. وتشير المعطيات إلى أن 33% من المضمونين لا تتجاوز رواتبهم الأخيرة الحد الأدنى الرسمي للأجور، فيما 64% لا تتجاوز رواتبهم 2.5 مليون ليرة.
أُخذت كل هذه العناصر في الاعتبار لتلد مستوى اشتراكات بمعدل 3% يوفّر التوازن المالي لفترة 47 سنة.




يرى رئيس مؤسسة البحوث والاستشارات كمال حمدان، أن أي مقاربة لمبدأ «الحقّ في الصحة» يجب أن تكون كليّة أي «لمشروع التغطية الشاملة لكل اللبنانيين لأن هناك نسبة كبيرة من العاملين ابتداء بالزراعة ووصولاً إلى المؤسسات الأصغر، غير مصرّح عنهم، وبالتالي فإن مشروعاً مجتزءاً كالذي نشهده اليوم لا يمنح اللبنانيين الحد الأدنى من التغطية الصحية بعيداً من القنوات القائمة بفسادها وأهدافها. حتى أن المشروع المطروح لتغطية المتقاعدين لن يشمل إلا الذين سيتقاعدون بعد إقرار القانون. الآلاف أكلوا الضرب!».