في الوقت المناسب والملائم، أو تحديداً في الوقت ما قبل القاتل مباشرة، تحرّك الجيش في طرابلس. لم يلغ موعد الانفجار كليّاً بعد. لكن توقيته تأجّل، وآليته تعقّدت، والأهم أن من وراءه باتوا مكشوفين. فعملية الإرهابيين المرجّحة في طرابلس، بدأت فعلياً في «عرسال ــــ 1» في 2 آب الماضي، وتطوّرت سريعاً. وعملية الجيش في طرابلس جاءت استباقاً لـ «عرسال - 2»، وأنجزت حلقتها الأولى سريعاً أيضاً... وهذه بعض الأسباب والأسرار.
في مشهد أول، كان مسلحو مسجد عبدالله بن مسعود في باب التبانة معروفين منذ مدة طويلة بتبعياتهم الإرهابية. تعرفهم المخابرات الغربية التي أنذرت الأجهزة الأمنية بحركتهم، ما أدى إلى توقيف أحد رؤوسهم في أيار 2012. ويعرفهم تجّار السياسة والجوع في طرابلس، الذين ضغطوا لإطلاق سراح الموقوف بعد أيام، ضماناً لاستمرار ارتزاقهم بخوف الناس. ويعرفهم أهل طرابلس المقهورون ظلماً بسلاح الزعران. في مشهد ثان، بعد معركة عرسال الأولى، أحسّ الإرهابيون في جرود المنطقة بالضغط الجدّي على خطوط تموينهم للمرة الأولى. فمنذ لجوئهم إلى تلك الخلفية الآمنة قبل أكثر من عامين، صارت سبل التواصل صعبة مع القاعدة الحصينة في البلدة التي أمّنت لهم السلاح والذخيرة، كما الخبز والماء والطعام، وصولاً إلى المستشفى العسكري واستراحة الإرهابي. فبدأ الضغط يشتدّ وبدأ التوتر يسيطر أكثر فأكثر على تصرفات الإرهابيين. هذا الوضع تحديداً هو ما يفسّر قول تمام سلام إنه لم يعرف بعد ما هي المطالب التي يرفعها الإرهابيون لتحرير الجنود المخطوفين، أو أن الإرهابيين يبدّلون مواقفهم بشكل دائم. فحين نفّذ الإرهابيون غزوتهم في عرسال، اعتبروا أنفسهم منتصرين، فراحوا يرفعون مطالب سجناء روميه وسوريا وحتى بعض الخليج. أما حين بدأت تتقطّع طرق آلاف ربطات الخبز اليومية، صار المطلب الأول الثابت لكل تفاوض «الممر الآمن إلى عرسال».
لم تلبِّ السلطات اللبنانية المطلب، رغم الضغوط التي مورست عليها من داخلها وخارجها للإذعان. فبدأ الخناق يشتدّ على الإرهابيين. خناق أرادت الطبيعة نفسها أن تزيد من إحكامه، فأرسلت صقيعها الشتائي مبكّراً إلى تلك الجرود. في خلال أيام قليلة وصل الثلج إلى كهوف الإرهابيين، ولم يصل مازوت عرسال ولا خبزها. فقرروا التحرك سريعاً. يوم الأحد، في 5 الجاري، قرّروا تنفيذ أول محاولة لكسر الطوق. هاجموا موقع عين الساعة بمئات من المسلحين. كان الهدف إحداث ثغرة تؤمّن التقدم للاتصال بمنطقة الزبداني، أو على الأقل الوصول إلى عسال الورد. لم ينجح الهجوم. منذ ذلك الحين، ومن دون ضجّة إعلامية مماثلة لمعركتي عرسال وبريتال، ينفّذ الإرهابيون سلسلة من محاولات التوغل يومياً. لم يتركوا مركزاً إلا هاجموه، لم يتركوا منحدراً ولا وهدة إلا حاولوا التسلّل عبرهما. على مدى أكثر من أسبوع، باءت كل المحاولات بالفشل الميداني المكلف. في مركز عين الساعة، لوحظ أن الإرهابيين لم يأخذوا الذخيرة القليلة التي كانت مع عناصر الموقع. لكنهم، في المقابل، حملوا كل عبوة ماء وكل لقمة خبز كانت هناك. بعد ساعات، وفي طريق انسحابهم، لوحظ أن قتلى الإرهابيين الذين تركت جثثهم في الجرود، لم تكن في حوزتهم المواد الغذائية التي نهبوها. ما يرجّح أنهم التهموها فوراً... روايات أخرى تتردد من دون أن تتأكّد بعد، عن حالات تسليم مقابل الطعام، كما عن حالات شرود أثناء القتال نتيجة الجوع والعطش.
هكذا بدا أن الإرهابيين يكادون يستنفدون احتياطهم من الأغذية، فيما هم استنفدوا فعلاً كل محاولات فتح ثغر في الحصار المضروب عليهم، في كل الخطوط الجبلية الممتدّة جنوب عرسال. لذلك، يرجّح أنهم قرروا العودة إلى خيار «عرسال 2». أي خيار تنفيذ هجوم ثان على البلدة نفسها. فهي الخاصرة الأشد رخاوة في الطوق المضروب عليهم، في حسبانهم. يعرفونها جيداً، لهم فيها عشرات آلاف النازحين. فضلاً عن بضع مئات من المسلحين المؤيدين لهم داخلها. إضافة إلى الاعتبار المذهبي الذي يجعل منها معقلاً، يعقّد على الجيش عملية تحريرها، كما يحسبون. لكل تلك الأساب ولسواها، يرجح أن القرار قد حُسم لدى الإرهابيين ببدء التحضير لـ «عرسال 2». لكن ضمان نجاح الجزء الثاني من الغزوة يقتضي الاستعداد له بشكل أفضل من استعدادات الجزء الأول. وأبرز الاستعدادات محاولة إضعاف الجيش، وإشغاله في مواقع أخرى لإلهائه. صارت المعادلة كالتالي: احتلال عرسال ضرورة حيوية خلال أسابيع قليلة. وفتح معركتين متزامنتين ضد الجيش، من داخله ومن خارجه، ضرورة حيوية مقابلة لنجاح الغزوة الثانية على عرسال. ولتحقيق ذلك كل الأسلحة مشروعة و«شرعية». هكذا أطلقت بروباغاندا فرار عسكري، لتصير في إعلام «داعش» عملية انشقاق. فيما كتلة نواب «داعش» في البرلمان اللبناني تتولى مهمة صدى الطبل لتلك البروباغاندا، وإرهابيو مسجد عبدالله بن مسعود يتحضرون لإطلاق معركة إشغال الجيش وإلهائه ...
في اللحظة الحاسمة، قرر الجيش التحرك. نفذ الأمر. لتعود الأولوية الآن إلى عرسال مجدداً. الغزوة الثانية متى؟ فلنرصد توقيتها على وقع صراخ خالد الضاهر.