لقد تمكنّت دولة الأكثريّة اليهوديّة، إسرائيل، من إيقاع الفلسطينيين في الفخّ الذي نصبته لهم بعناية الحركة الصهيونيّة الاستعماريّة والإمبرياليّة العالميّة الممثلة بأميركا ودول اتحاد النفاق الأوروبيّ، وبطبيعة الحال بتواطؤ الرجعيّة العربيّة. لقد أقاموا الدنيا ولم يُقعدوها في قضية التوجه الفلسطينيّ إلى الأمم المتحدّة بطلب إعلان «دولة فلسطين». لا بدّ هنا من توجيه تساؤل مفصلي: 56 دولة عربيّة وإسلاميّة وافقت على المبادرة العربيّة. لا نريد أنْ نسأل عن رفض الدولة العبريّة لتلك المبادرة (سلام كامل وتطبيع أكمل، مقابل الانسحاب من الأراضي العربيّة التي احتُلت في عدوان حزيران (يونيو) 1967)، ولا نرغب في الحصول على إجابة شافية بشأن تصريح وزير الأمن الإسرائيليّ الأسبق، بنيامين بن إليعيزر، الذي وصف المبادرة بأنّها أكبر إنجاز حققته الحركة الصهيونيّة منذ تأسيسها. ما نرغب في طرحه هو: أين الدول العربيّة والإسلاميّة الحليفة والمتحالفة مع واشنطن؟ لماذا لم تقم بالتهديد والوعيد لإرغام الإدارة الأميركيّة على العدول عن موقفها باستعمال حق النقض في مجلس الأمن عند التصويت على «دولة فلسطين»؟ لماذا ذلك العجز العربيّ؟ نحن نملك من الأدوات ما يكفي لتهديد أوباما، لماذا لا نتذّكر كيف اهتز العالم عندما انتفض النظام العربيّ الرسميّ في 1973، وشهر سلاح النفط في مواجهة تل أبيب وتواطؤ الغرب الاستعماريّ؟ كان صائب عريقات صادقاً عندما قال في الناصرة إنّ خطوة الإعلان لا يمكن أن تأتي على حساب أيّ من ثوابت المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، وفي مقدمتها حق العودة. عريقات، لم يتطرق إلى أين ستجري العودة، وكيف ستُطبّق إذا أُعلنت الدولة في الضفة الغربيّة وقطاع غزة. نميل إلى الترجيح بأنّ إعلان الدولة، وهو خطوة فلسطينيّة مئة بالمئة، سيُلغي أوتوماتيكياً قرار مجلس الأمن الدوليّ الرقم 194، القاضي بإعادة اللاجئين إلى الأراضي التي شُردوا منها في النكبة. اللافت أنّ صنّاع القرار في تل أبيب يعيشون حالة من الهستيريا المصطنعة. الجيش الإسرائيليّ يُحذّر من أنّه سيتحول إلى جيش احتلال وفق القوانين والمعاهدات الدوليّة، كأنّه اليوم جيش تحرير. أمّا المستوطنون، فسيتحوّلون إلى سكان غير شرعيين في الضفة الغربيّة المحتلّة، فيسود لديك الانطباع بأنّهم حتى اليوم كانوا يسكنون الضفة الغربيّة بصفتهم مجموعات من السيّاح الأجانب.
وبما أننّا ننتمي إلى هذا الشعب، يحق لنا أنْ نُسجّل بعض الملاحظات. أولاً، في إسرائيل هناك لعبة تقسيم الأدوار بين الائتلاف الحاكم وما تُسمى المعارضة، وفي ذلك السياق علينا أنْ نأخذ بعين الاعتبار أنّ رئيسة «كاديما» المعارض، تسيبي ليفني وزميلها النائب افي ديختر، هاجما أداء حكومة نتنياهو في ما يتعلق برد الفعل على المسعى الفلسطينيّ. قال ديختر إنّ الدولة الفلسطينيّة هي مصلحة قوميّة إسرائيليّة. وديختر بالمناسبة شغل سابقاً منصب رئيس الشاباك، وبالتالي يعرف خبايا وخفايا الأمور، ولا نعتقد أنّه كان سيجرؤ على طرح الموقف ذاك، لولا أنّه على قناعة بصهيونيّة رؤيته. وأقوال ديختر خطيرة للغاية، لأنّها تُكمل أفكار زعيمة حزبه، ليفني، التي أكدت أنّ الدولة في حدود 67 ستكون الوطن القوميّ لجميع الفلسطينيين، بما في ذلك، عرب الـ48. أيْ إنّ الدولة ستفتح الباب على مصراعيه أمام دولة الأكثرية اليهوديّة للتخلص من فلسطينيّي الداخل.
ثانياً، قال السيّد عباس إنّه بعد الإعلان «التاريخيّ» عن الدولة، سيعود إلى طاولة المفاوضات. وبما أنّ القيادة الفلسطينيّة الحاليّة وافقت على مبدأ تبادل الأراضي مع الدولة العبريّة، وحظيت تلك الرؤية بدعم من الرباعية الدوليّة، فلا يستغربن أحد، إذا قامت إسرائيل بتطوير المبدأ ليشمل تبادل السكان أيضاً. وبالتالي لا نستبعد بالمرّة أنْ يتحوّل عرب 48 إلى سلعة للمقايضة، فيتوجهون، بناءً على مبدأ التبادل إلى الدويلة الفلسطينيّة المنزوعة السلاح والمنقوصة السيادة، وقطعان المستوطنين سيعودون إلى داخل ما يُسمى الخط الأخضر. وهكذا تكون إسرائيل نقيّة من العرب، وفلسطين نقيّة من اليهود.
ثالثاً، القيادة الفلسطينيّة الحاليّة، التي سلبت دائرة صنع القرار، لا تُمثل الشعب الفلسطينيّ، فالسيّد محمود عبّاس لا يتعدى كونه رئيساً لبلدية المقاطعة المحتلّة في رام الله، مضافاً إلى ذلك التنازلات التي قدّمها مع فريق مفاوضاته خلال المحادثات مع الإسرائيليين، وكُشف أمرها في «الجزيرة».
رابعاً، التخوّف الإسرائيليّ المزعوم من قيام «الدولة» الفلسطينيّة العتيدة بالتوجه إلى محكمة العدل الدوليّة في لاهاي لاعتبار جنود الاحتلال والمستوطنين مجرمي حرب، هو ادعاء مُعّد للاستهلاك الداخليّ وأيضاً الخارجيّ. لقد حصلت القيادة الفلسطينيّة على قرار من المحكمة عينها يؤكد أنّ جدار العزل العنصريّ غير قانونيّ وأمرت بإزالته وتعويض الفلسطينيين. إسرائيل لم تُنفذ القرار وواصلت بناء الجدار. كذلك، أجهضت القيادة الفلسطينيّة الحاليّة تقرير القاضي غولدستون، وحاولت منع المؤسسات الأمميّة من مناقشته، لتجنيب تل أبيب مخاطر ذلك. وبالتالي، لن تجرؤ على محاكمة تل أبيب في لاهاي، لأنّ تأكيد عبّاس على العودة إلى المفاوضات العبثيّة، يدخل في إطار طمأنة نتنياهو وليبرمان إلى أنّ المحكمة الدوليّة غير قائمة على الأجندة الفلسطينيّة.
خامساً، إعلان الدولة في حدود ما قبل عدوان 1967، هو اعتراف فلسطينيّ رسميّ بأنّ القضيّة الفلسطينيّة وُلدت بعد النكسة، وليست وليدة النكبة. وهكذا يُشطب قرار حق العودة إلى أراضي 48، فضلاً عن أنّ المشروع الأميركيّ والأوروبيّ، وحتى الإسرائيليّ، يتماشى مع ذلك الطرح. وإذا كانت القيادة الفلسطينيّة تعتقد بأنّ الدولة مهمة، نقول لها إنّ العودة أهّم من الدولة.
سادساً، إعلان الدولة رمزي، فالمستوطنات ستبقى جاثمة على صدور شعبنا في الضفة الغربيّة المحتلّة، ووتيرة البناء الكولونياليّ ستتصاعد لفرض وقائع جديدة على الأرض، كما أنّ قوات الاحتلال ستواصل القمع والبطش، والأمم المتحدّة لن تُرسل قوات الناتو لتطبيق القرار، فالناتو لليبيا، والفيتو لفلسطين.
سابعاً، بعد الإعلان المرتقب سيتحوّل الصراع من صراع على الحقوق التاريخيّة إلى صراع على الحدود بين دولتين، كما تحوّلت المفاوضات من أجل الحقوق إلى حقوق على المفاوضات من قبل السلطة.
ثامناً، قال عريقات إنّ إعلان الدولة لن يُلغي منظمة التحرير الفلسطينيّة، متناسياً أنّ المنظمة باتت جسماً هلامياً احتكرته مجموعة قادة لم ينتخبهم الشعب، وهي أصبحت منظمة تدجين، لا تحرير.
تاسعاً، قبل عدّة أشهر، بعد الثورة المصريّة، وُقع اتفاق المصالحة بين فتح وحماس، وكما كان متوقعاً، فإنّ الاتفاق لم يخرج إلى حيّز التنفيذ، ذلك أنّ عبّاس أصّر على تعيين سلام فيّاض، رئيساً للوزراء. فكيف ستجري المصالحة بعد إعلان الدولة، وهي الخطوة التي أعلنت حماس رفضها، وكذلك فصائل أخرى.
إنّ النقطة الإيجابيّة الوحيدة في القرار أنّها قد تؤدي إلى إعفائنا من السلطة الفلسطينيّة الوهميّة، ومن الصراع على السراب الذي جلبه لنا اتفاق أوسلو. سننام على احتلال، وسنصبح على احتلال. أمّا الأخطر، فهو أنّ الإعلان سيكون المسمار الأخير في نعش الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة، وإعلان القطيعة التامّة سياسياً وجغرافياً بين القطاع والضفة، وبين هاتين المنطقتين وبين عرب 48 واللاجئين في الشتات.
مبروك يا إسرائيل، هنيئاً يا أميركا، لقد قامت فلسطين.
* كاتب من فلسطين 48