تونس | في الوقت الذي ترشّح فيه كل استطلاعات الرأي حزب «نداء تونس» الذي لم يمضِ على تأسيسه إلّا أقل من سنتين، للفوز بأغلبية مقاعد البرلمان الجديد، عرف الحزب، نتيجة القوائم الانتخابية، موجةً من الاستقالات دفعت عدداً من المحللين، والخصوم السياسيين، إلى وصفه بأنه «نمر من ورق» تهاوى قبل المعركة. هذا التوصيف الذي تتداوله شبكات التواصل الاجتماعي، وبعض الصحف الإلكترونية والورقية، القريبة من «حركة النهضة»، حول خصمهم الأساسي، لم يمنحه قادة «نداء تونس» الكثير من الاهتمام.

فالاستقالات مع دنوّ موعد الانتخابات هي ظاهرة طبيعية في الأحزاب الكبرى.
إذ إن التنافس للفوز بمقعد برلماني يبقى مسألةً منطقية في الحياة السياسية، وبالنسبة لحزب ناشئ لم يعقد بعد مؤتمره الأوّل، ويجمع بين «شتات» قادمين من تيارات فكرية وتجارب سياسية مختلفة، يصبح الأمر أكثر من عادي. ولن يكون عائقاً دون الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان. هكذا يردّد قادة الحزب وأنصاره بثقة عمياء في قدرات الحزب. وبغض النظر عن نصيب الحزب في انتخابات ٢٦ تشرين الأول المقبلة، فإن حزب حركة «نداء تونس» يعتبر ظاهرة غير مسبوقة في الحياة السياسية التونسية.
فقد نجح الحزب بالانتشار خلال وقت قصير، ولقي التفافاً من التونسيين، كما لم يلق أيّ حزب آخر. ورغم محاولات ميليشيات «حماية الثورة» المدعومة من أحزاب (النهضة، والمؤتمر من أجل الجمهورية، ووفاء، والتيار الديموقراطي) التضييق على نشاطه، وتشويه صورة أنصاره وقياداته، والاعتداء بالعنف عليهم، الذي بلغ حدّ اغتيال المسؤول الجهوي في محافظة تطاوين لطفي نقض، ومنع الحزب من عقد اجتماعات شعبية مع المواطنين في أكثر من مدينة، كصفاقس وجربة وقليبية، رغم ذلك كان الحزب ينتشر شمالاً وجنوباً. تجاوز عدد المنتسبين اليه، المعلنين، المئة ألف منتسب، قبل أقلّ من عام على تأسيسه، وهو رقم لم يبلغه حزب آخر، سوى الحزب الحاكم سابقاً، فما هو سر الالتفاف الشعبي حول «نداء تونس»؟
بالتأكيد، لا يكمن السرّ في كاريزما زعيمه الباجي قائد السبسي، ولا بتعدد روافده الفكرية والسياسية، ولا بوجود مؤسسين من تجارب سياسية ونقابية وفكرية، عرف البعض منهم السجون والمنافي، بل في الظرف السياسي الذي تأسس فيه الحزب، وهو ظرف أطلّ فيه شبح الظلامية والأفغنة على تونس خلال حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة؛ فمنذ أن أعلن الباجي قائد السبسي (في ٢٦ كانون الثاني ٢٠١٢) عن نداء لتجميع القوى الديموقراطية من أجل تحقيق التوازن السياسي في البلاد، لمنع تغوّل حركة النهضة، والقطع مع ثقافة الحزب الواحد، الحاكم والمهيمن، وتحقيق الديموقراطية التي ثار من أجلها التونسيون، وأسقطوا النظام السابق، بدأ التونسيون يرون أملاً آخر النفق، والتفوا حول هذا «البيان» وتشكلت لجنة لتفعيله، وتمّ الاتفاق، بعد حوارات ونقاشات مع مختلف الأطراف السياسية، على تشكيل حركة «نداء تونس» التي كان أوّل ظهور علني لها في ١٦ يونيو ٢٠١٢، ومنذ ذلك الاجتماع التاريخي في قصر المؤتمرات بالعاصمة، الذي أعلن فيه «سي الباجي» كما يلقبه الناشطون السياسيون، أو "البجبوج" كما يسميه أنصاره، «إنقاذ تونس» من الظلاميّة الزاحفة، تصدّر الحزب المشهد السياسي، وأصبح حاملاً لهموم وتطلعات التونسيين، باعتباره المركب الوحيد القادر على إنقاذ تونس من الغرق في بحر الصوملة والعنف والأفغنة. فحركة «نداء تونس» كما يسميها مؤسسوها، هي الجيل الخامس للحركة الوطنية التونسية، إذ أسّس الجيل الأوّل، بداية من أواخر القرن التاسع عشر، «الحركة الإصلاحية التونسية» عبر مجموعة من المحطات، منها تأسيس الصادقية، والخلدونية، والحزب الحر الدستوري التونسي، وحركة الشباب التونسي، وقاد الجيل الثاني معركة التحرير الفعلية من الاستعمار الفرنسي، وأسّس الحزب الدستوري الجديد ١٩٣٤، والاتحاد العام التونسي للشغل ١٩٥٢، وحقق الاستقلال بزعامة الحبيب بورقيبة وفرحات حشاد وعلي بلهوان والهادي شاكر وغيرهم، والجيل الثالث بنى الدولة ورسّخ مؤسساتها، بداية من الاستقلال في ٢٠ آذار١٩٥٦، فيما يعتبر الجيل الرابع جيل الحركة الديموقراطية، التي بدأت نشاطها الفعلي بعد اغتيال الشهيد صالح بن يوسف، ومحاولة اغتيال الزعيم الحبيب بورقيبة الفاشلة، ومنع حلّ الأحزاب والجمعيات، وضم المنظمات الوطنية، مثل اتحاد الفلاحين واتحاد المرأة، إلى الحزب الدستوري الحاكم، وقد بدأت هذه الحركة في ١٩٦٢، وتوصّلت الى إسقاط النظام السابق، وقد جمعت بين القوميين، بشقيهم البعثي والناصري، واليساريين بكل تشكيلاتهم، والإسلاميين. ويعتبر قادة الحزب أنهم الحركة الوحيدة التي تجمع في أهدافها بين المحافظة على مكاسب دولة الاستقلال الأولى والثانية في عهدي بورقيبة وبن علي، لكنهم ملتزمون بتحقيق مطالب الحركة الديموقراطية في التعددية السياسية والتداول السلميّ للسلطة، ودعم الحريات، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
يستند حزب حركة «نداء تونس» إلى أرضية فكرية صلبة، أعدّها عدد كبير من الجامعيين التونسيين، نذكر منهم: محمد الطالبي وألفة يوسف ورجاء بن سلامة وعبد القادر الزغل وعبد الحميد الأرقش وحمادي الرديسي وغيرهم، كما استعان بمجموعة من خبراء الاقتصاد التونسي من أساتذة الجامعات، لصياغة برنامجه الاقتصادي والاجتماعي، وأغلب الذين صاغوا هذا البرنامج ينحدرون من تجارب اليسار التونسي، لذلك فإنّ الحزب يعتبر نفسه حزباً «اجتماعياً ديموقراطياً». هذا النهج للحزب لم يكن غريباً، فهيئته التأسيسية جمعت بين شخصيات قلّ أن تجتمع عادة، مثل الباجي قائد السبسي، الدستوري المتعصب لبورقيبة، والعميد الأزهر القروي الشابي، الذي انشقّ على بورقيبة، وانحاز إلى الشهيد صالح بن يوسف الذي اغتاله بورقيبة في سويسرا، مطلع الستينيات، إضافة إلى بوجمعة الرميلي، السجين السياسي في عهد بورقيبة. ومن رموز الحزب الشيوعي التونسي كذلك، نجد الطيب البكوش، الأمين العام للحزب، وهو نقابي سُجن في عهد بورقيبة. ومن جيل آخر، نجد محسن مرزوق، حقوقي ناشط لدى منظمات دولية، وكان أميناً عامّاً مساعداً للاتحاد العام لطلبة تونس، عن التيار الوطني الديموقراطي الذي كان يتنافس مع الشهيد شكري بلعيد على تزعمه. والأزهر العكرمي الناشط في المنظمات الفلسطينية بين سوريا ولبنان، والذي انتمى إلى الجبهة الشعبية، ورفع السلاح دفاعاً عن بيروت في ١٩٨٢. كما نجد من بين قياديي الحزب، من تحمّل مسؤليات في عهد بن علي، مثل رجل الأعمال فوزي اللومي، العضو في برلمان بن علي، ورجل الأعمال رؤوف الخماسي، عضو اللجنة المركزية للتجمع المنحل، وعزيزة حتيرة رئيسة منظمة المرأة. كذلك نجد آخر أمين عام للتجمع المنحل محمد الغرياني، مستشاراً لرئيس الحزب الباجي قائد السبسي.
هذه التركيبة التي قد يراها البعض غريبة، ربّما تكون هي سرّ الحضور البارز للحزب في كل جهات البلاد، وتحوّله خلال وقت قصير إلى ظاهرة لافتة في المشهد السياسي، تلقى التفافاً حولها، حتى ممّن لا نشاط سياسيّاً لهم، ولم ينتموا الى أي حزب، لكنهم يعتبرون أنّ «نداء تونس» هو الضمان الوحيد لتخليص البلاد من مخاطر الوهابية والإرهاب والأفغنة، ومن المشروع الظلامي الغريب عن تاريخ البلاد وتقاليدها، البلاد التي منعت العبودية في ١٨٤٦، قبل فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، والتي أعلنت «عهد الأمان» في ١٨٥٧، الذي يمكن اعتباره بمثابة أوّل إعلان لحقوق الإنسان، والتي أصدرت أوّل دستور سنة ١٨٦١.
فهل يمكن للاستقالات التي عرفها الحزب، عشية تقديم القوائم الانتخابية، مجرّد ظاهرة مؤقّتة وعابرة، ويتمكّن من تحقيق السبق في الانتخابات؟ أم تعصف به الاختلافات، التي طالما ردّد قادته أنها مصدر قوته؟ من المؤكّد أنّه لايمكن الجزم بشيء قبل الاستحقاق الانتخابي ونتائجه.