لم تفقه فاطمة، الطفلة ابنة العشر سنوات، لِمَ اقتيدت، في اليوم الدراسي الأول، إلى غرفة الإدارة لتبقى هناك حتى نهاية الدوام. في ذاك اليوم، لم تدخل التلميذة في المدرسة المعمدانية الإنجيلية الصف ولم تخرج إلى الملعب. ذنب الصغيرة أنّ والديها قررا أن ترتدي ابنتهما الحجاب، بما عدّته إدارة المدرسة مخالفاً لقوانينها ونظامها الداخلي.
يوم تسجلت فاطمة في صف الحضانة في هذه المدرسة بالذات كان السبب، كما قالت الأم، أننا «لا نريد أن نتقوقع داخل كانتون طائفي ومناطقي». الوالدان اللذان استحضرا في شكواهما لوزارة التربية المادة 9 من الدستور التي تكفل حرية المعتقد، تزعجهما مضايقات الإدارة للطفلة، حتى بعد وضع «الباندانا»، الذي حصل وفق اتفاق وسطي بين الطرفين. اذ تنص هذه المادة (التاسعة) على ان «حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية».
لكن للمدرسة الخاصة مبرراتها أيضاً التي يتحدث عنها مديرها بيار رحال. بالنسبة إليه، المسألة بسيطة وغير مرتبطة بالحجاب أو الدين. كل ما في الأمر، كما يقول، أنّ النظام الداخلي الذي وقّع عليه الأهل منذ البداية يمنع ارتداء عصابة الرأس أو القبعة أو غطاء الرأس تماماً كما يرفض احتذاء الأخفاف (مشايات) على أنواعها. يرفض رحال ما قاله الوالدان إننا «احتجزنا الطفلة أو أننا تعاطينا معها بشكل مباشر، بل تواصلنا مع الأهل كونهم خرقوا الاتفاق، أولاً بإحضار فاطمة بغطاء كامل وثانياً بعدم تطبيق شروط الباندانا». رحال يرتكز بدوره إلى المادة 10 من الدستور، «فهي تحمي أنظمة مدارسنا وقوانينها التي لا يمكن أن نطبقها على شريحة من التلامذة دون أخرى، فعلى سبيل المثال نحن ندرّس التعليم المسيحي منذ 60 عاماً للجميع».
رؤساء الطوائف رفضوا
إلغاء ساعة الدين واعتماد كتاب الثقافة الدينية الموحد
من الواضح هنا أنّ الدستور اللبناني أعطى، في المادة 10، الطوائف حقوقاً ثابتة، ومنع المس بها، اذ نصت هذه المادة (العاشرة) على ما يتناقض مع المادة التاسعة، اذ جاء فيها حرفيا ان «التعليم حر ما لم يخل بالنظام العام أو ينافي الآداب أو يتعرض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب ولا يمكن أن تمس حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة، على أن تسير في ذلك وفاقاً للأنظمة العامة التي تصدرها الدولة في شأن المعارف العمومية».
ساعة الدين
في الواقع، هذه الحادثة هي واحدة من مئات الحوادث اليومية في المدارس الخاصة والرسمية على السواء، ولا يخرج منها إلى العلن إلّا القليل القليل، والسبب ببساطة غياب سلطة الدولة مقابل تنامي نفوذ الطوائف.
تحضر هنا حادثة مدرسة «سابيس» «العلمانية» التي منعت، في نهاية العام الماضي، بعض التلامذة من وضع إشارة الصليب في اثنين الرماد، وأبقتهم خارج الصف بسبب ذلك. وقد أبلغت المدرسة قرارها للأهالي مؤكدة ضرورة عدم إظهار أية علامة دينية أو سياسية، فيما رأت يومها أنّ الفريضة الدينية مقبولة، وهذا يعني أن الحجاب مقبول والصليب مرفوض، بحسب ما فسر مدير المدرسة للأهالي.
ثمة التباس يحصل في المدارس الخاصة بالنسبة إلى الحجاب نفسه، فهل هو زي مدرسي أم معتقد، وغالباً ما تتلطى الإدارات وراء ذلك لتفرض ارتداءه أو تمنعه. تدرج جمعية المبرات الخيرية الطلب من كل التلميذات والمعلمات ارتداء الحجاب ضمن إطار الزي المدرسي الموّحد ومدونة السلوك التي يوقعها الجميع بمجرد أن يقرروا الالتحاق بأسرة المدرسة. «هذه المدونة لا نفاجئ بها أحداً»، تؤكد مديرة ثانوية الكوثر رنا اسماعيل، و«من يرتضي التوقيع عليها يمارس خياره الشخصي». في ما عدا ذلك، «نحن منفتحون على تقبل الآخر ويتعلم أولادنا احترام كل الطوائف». تستدرك أن حصة التربية الإسلامية ليست الزامية لغير المسلمين ومن حق هؤلاء أن ينسحبوا منها، وإن كنا «ننصح الأهل بأن يتابع أبناؤهم الحصة ليتعرفوا إلى الدين الآخر».
مثل هذا الخيار يثير إشكاليات إجرائية في عملية التعليم نفسها التي تتطلب فصل الطلاب إلى شعب خلال حصص الدين، وهو أمر شائك في مجتمع شديد التنوع الطائفي كلبنان. وبسبب اعتراض رؤساء الطوائف على إلغاء ساعة الدين ورفضهم اعتماد كتاب الثقافة الدينية الموحد عند وضع المناهج عام 1997، فإن الطوائف والمذاهب تفرض معتقداتها في مدارسها الخاصة، في حين أوكلت مهمة التعليم الديني في المدارس الرسمية إلى المؤسسات الوقفية الدينية لكي ترسل أساتذة للتعليم الديني، وترك الأمر لمدراء المدارس لتنظيم الأمر. ففي مدرسة تضم غالبية مسلمة يرسل إليها شيخ وفي مدرسة ذات غالبية مسيحية يرسل إليها خوري، فيما تستقطب المدرسة المختلطة الشيخ والخوري معاً.
هذا الواقع يفقد المدرسة، ولا سيما الرسمية، عنوانها ووظيفتها ويضرب صفتها كمؤسسة وطنية جامعة، ويطلق العنان للمدير ليقرر ما يريد ووفق مزاجه ماذا يحصل في حصة الدين، هذا فضلاً عن الضغوط التي يتعرض لها من المجموعة الدينية أو الحزبية التي تقع مدرسته في فلكها، بحسب ما صرّح به احد المعنيين رافضاً الكشف عن اسمه ووظيفته. يشير في هذا السياق الى ان أحد المدراء أصر على اختيار شيخ من المذهب نفسه الذي ينتمي إليه ليعلّم مادة الدين لتلامذة غالبيتهم من مذهب آخر، فقامت قيامة الأهالي الذين اعترضوا على مضمون المادة، فتغيّر الأستاذ ثلاث مرات.

الصلاة بدلاً من النشيد

يروي مدير ثانوية غوسطا الرسمية في كسروان ميشال الدويهي أنّه أعاد منذ تسلمه إدارة المدرسة، إحياء النشيد الوطني بعدما كان قد استبدل بصلاة مسيحية صباحية، مشيراً إلى أنّه لا يجوز لمدرسة تابعة للدولة اللبنانية أن تمارس أي شكل من أشكال التمييز وأن تأخذ أية وجهة طائفية. خروج التلامذة من الصف في ساعة الدين هو أمر خطير بحد ذاته، يقول الدويهي، ولا يجوز للدولة أن تتقاعس تحت حجة ديمقراطية التعليم، تاركة للمجموعات الدينية أن تضع أنظمة مدارسها على ذوقها، فتعشش الطائفية في الصروح التربوية. الأمر يخضع أيضاً لموازين القوى التي تسيطر على المنطقة حيث تقع المدرسة، فبعض الثانويات الرسمية في الضاحية الجنوبية لبيروت تفرض تلاوة أدعية صباحية يومية، بإشراف المدير والناظر العام.
المرجعية الدينية توافق أيضاً على العطلة الأسبوعية، وقد استفادت إحدى مدارس وطى المصيطبة من هذا التعميم الرسمي لتحويل الفرصة إلى السبت والأحد بدلاً من الجمعة والأحد، بعد أخذ مباركة المرجعية الدينية الدرزية كون المدرسة تقع في دائرة نفوذها.
إذا كان هذا يحصل في المدرسة الرسمية فماذا عن المدارس الخاصة التابعة للطوائف؟ كل ذلك يجعل من تعميم وزير التربية الصادر في 17 تموز الماضي على خلفية حادثة مدرسة «سابيس» غير قابل للتطبيق لكونه خضع لضغوط رجال الدين ليس إلّا.
التعميم طلب من الثانويات الرسمية والخاصة عدم إصدار أية أنظمة أو قرارات أو تعليمات من شأنها المساس بالحرية الدينية وبحرية التعليم أو بوسائل التعبير عنهما وبثقافة التنوع وقبول الآخر وتعزيز مفهوم الديمقراطية ما دامت تمارس بما لا يعارض النظام العام أو يخل به.

حفلة طائفية وفوضى

يشرح الباحث التربوي عدنان الأمين أن التعميم ليس واضحاً إذ «لا نعرف إذا كان يخلط بين الحريات الفردية والحريات الجماعية، فأن يترك للأفراد حرية ممارسة معتقداتهم الدينية مثل ارتداء لباس أو وضع شعار ديني معيّن شيء وأن تعطى المجموعات الدينية الحرية لتحويل المدرسة إلى مكان لممارسة معتقداتها شيء آخر، غير مسموح أن يشرف المدير على مؤسسة رسمية ترعى سلوكاً لمذهب معين فيوافق على إنشاء مصلى أو مسجد أو كنيسة أو تنظيم حفل ديني في مكان عام مثل المدرسة الرسمية، فإذا كان تعميم الوزير يحكي عن الاثنين معاً، فهذه مشكلة، وهذا اعتداء على الآخر في المكان والزمان».
ما يحصل كما تقول الباحثة في الاجتماع التربوي أوغاريت يونان هو نتيجة للفصل الذي ثبتته الدولة رسمياً في مرسوم التعليم الديني الصادر في 10/10/2000، حيث أقرت بكتاب دين موحد للطوائف المسيحية وكتاب موحد للطوائف المسلمة وكأن وظيفتها هي توحيد الطوائف وليس اللبنانيين، ومع ذلك لم تنجح بهذه المهمة حتى اليوم، بل استحدثت حصة دين على حساب حصة الفنون والنشاطات حيث اختبر التلامذة أسوأ درس تربوي عندما اضطروا لمغادرة الصف خلال الحصة. «هي حفلة طائفية وفوضى»، سائلة ما إذا كانت المادة 14 من اتفاقية حقوق الطفل تطبق فعلاً، أي هل يعطى الطفل فعلاً الحق في حرية الفكر والوجدان والدين سواء من الأهل أو من المدرسة، وهل تمارس المدارس والأفراد الحرية الدينية أم الاستقطاب الطائفي والأدلجة المذهبية؟».