ما زلت أظنّ أنّ على الملك حمد أن يتنحى عن السلطة من أجل فتح باب للتسوية في البحرين، وتتعمق الرؤية عندي بأن الملك، الذي رُفع على الأعناق في 2001، في جزيرة سترة المنكوبة (بكل ما في ذلك من دلالات الرغبة الشعبية في بداية جديدة، باعتبار سترة أكثر المناطق تضرراً من تداعيات الحل الأمني في التسعينيات)، ونودي بسقوطه على رؤوس الأشهاد في 2011، لم تعد ممكنة إعادة تأهيله، بسبب المآسي التي جرها على البلاد والعباد، وآخرها ما يجري من انتهاكات فظيعة لشعائر عاشوراء (2014)، تذكّر بجريمة هدم 38 مسجداً للمسلمين الشيعة في 2011، في حدث لم يسبقه إليه أي من حكام آل خليفة المستبدين، وهذه واحدة القضايا التي تجعل حمد أسوأ حاكم خليفي مر على البلاد، وتجعلني أصنف حكمه بالأسوأ، في العصر الحديث.
وأذكّر هنا، بأن الفارق بين أحداث التسعينيات (1994 ــ 1998)، حيث الرفض واسع لسياسات رئيس الوزراء، الحاكم الفعلي للبلاد حينها (وليس الآن)، وبين اعتصامات دوار اللؤلؤة الحاشدة (فبراير (شباط) ــ مارس (آذار) 2011)، الرافضة على نطاق غير مسبوق لسياسات الملك حمد، تعود أساساً إلى أنّ حمد قد مضى في سياسات رعناء ضد القطاعات الشعبية الأوسع، على نحو تجاوز بمراحل الدكتاتورية التقليدية التي كان يمارسها حاكم سيء كرئيس الوزراء، وهذا ما جعل الناس «يخرجون من ثيابهم»، ويصرخون «من قمة رأسهم»: «يسقط حمد»، بينما هي نادت بشكل واسع من الحكم للعائلة الخليفية في التسعينيات، حين طالبت بعودة دستور 1973، الذي يحكم دستور شبيه به دولة الكويت.
لقد قام الملك حمد بإلغاء دستور 1973، وهو أمر لم يقم به رئيس الوزراء، وإن علّقه، ولم يعمل به، لكنه أبقاه على الرّف لحين الحاجة له، فيما جاء الملك حمد، وصنّف نفسه في غاية الذكاء حين تقدم بوعود للناس بالحفاظ على دستور دولة البحرين، لكنه كذِب صراحة في ذلك، وأصدر دستوراً جديداً، ركز سلطات البلاد في شخصه.
كذلك قام الملك حمد بعمليات تجنيس مرعبة، تذكّر بالقنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما اليابانية، وهو أمر لم يقم به رئيس الوزراء على هذا النحو المفزع.
المأساة الكبرى الإضافية
للملك حمد هي تدويل
قضية البحرين

كذلك مارس الملك حمد اقصاء و«تطهيراً» للطائفة الشيعية، تجاوز عمليات التمييز الكريهة التي عرفناها إبان عهد خليفة بن سلمان، فقد رفع الملك حمد شعار الحرب الشاملة على الشيعة، مؤسسات وأفراداً، طاولت كل مناحي الحياة.
أما المأساة الكبرى الإضافية للملك حمد، فهي تدويل قضية البحرين، وليس الاكتفاء بدسّ أنف السعودية كما فعل خليفة بن سلمان، فالجيش السعودي على الأرض حالياً، في صيغة مهما حاولنا التخفيف منها، فلن يختلف أحد على أنها تنتقص على نحو جلي من سيادة البلاد، أما عدم تسمية الوجود السعودي احتلالاً، فلا يمكن أن تنفي أن القرار البحريني بات يتلاطم بين الرياض وواشنطن وطهران، وعواصم القرار الإقليمي والدولي. ولم يعد مستساغاً لأي مسؤول بحريني القول على أوباما ألاّ يذكر البحرين في خطاباته، ما دام السعوديون طرفاً مباشراً في الحدث الداخلي، وبالتالي لنتوقع أن يستمر أوباما في ابتزاز السعودية والإمارات من خلال البحرين، فيما لن تجد إيران، الطرف الإقليمي القوي، وضعاً مثالياً أكثر من هذا كي تدلي برأيها في الشأن البحريني، الذي لم يعد داخلياً أبداً.
في الواقع، ما قام به الملك من كوارث يتجاوز أي وصف، فقد أضر بالعلاقات الداخلية بين الشيعة والسنة، واعتبر ذلك أكبر خدمة لديمومة ملكه، فالوحدة الوطنية مضرة بالدكتاتورية، كما يظن.
والحقيقة هي أن الملك لم ينتظر طويلاً حتى حصد ما زرعت يداه، فها هو محصور في قصر الصخير والمنطقة الجنوبية حيث يمارس حكمه الذاتي، ويصعب عليه أن يزور المنامة أو أية منطقة أخرى خوفاً من انفجار سيارة مفخخة، أو أن يلقي عليه أحد من ذوي الشهداء المفخخين نفسه (الفاقد مفخخ حتى إشعار آخر)، وهو أمر لا نتمناه، لأنه سيدخل البلاد جولات من العنف، تعمل المعارضة على تفاديها، ولا تساعدها في ذلك سياسات الملك حمد الحمقاء والانفعالية.
أضيف، أن الملك أضر بعائلته الخليفية ومستقبلها السياسي، كما أضر على نحو بالغ بمستقبل ابنه ولي العهد. فقد كان الملك بعيداً من الصورة والأضواء إبان حكم والده وعمه (1963 ــ 1999)، ما سهل عليه التبرء من أعمالهما، علناً، واللجوء إلى أسلوب الصدمة عبر إغراق الحالة العامة بمجموعة غير متوقعة من القرارات الإيجابية، التي أربكت المعارضين، الذين مضوا اعتماداً على حسن النية، في دعم الملك حمد (2001).
أما الآن، فقد ورّط الملك حمد نجله سلمان حتى أخمص قدميه في اللعبة السياسية القذرة القائمة، وسيكون عصيّاً على ولي العهد اقناع المعارضة بالتعاطي معه بحسن نية كما تعاملت يوماً مع أبيه، هذا اذا افترضنا أنه سيكون لسلمان موطئ قدم في الحكم، أو سيكون له الصوت الراحج في عائلته التي لا تخفي شكها به، فيما لا يخفي عسكر خليفة بن حمد (قائد الجيش) عدم تقديرهم لولي العهد رجلاً ثانياً في البلاد. ومن اللافت أن يُقصى ولي العهد من المؤسسة العسكرية، التي اعتمد عليها الملك حمد في تثبيت حكمه إزاء منافسيه: رئيس الوزراء (في السنوات الأولى منه)، وخصومه المعارضين.
إن ما يعقد الوضع فعلاً، هو كون رأس الدولة مأساتها، وهي حالة لم تكن موجودة في التسعينيات، إذ وجهت سهام المعارضين إلى رئيس الوزراء وليس الأمير، ولا تشبهها أوضاع ملكيات مستبدة أخرى مثل السعودية والمغرب ودول الخليج الأخرى، حيث يحظى رأس الدولة عموماً بالتقدير، خوفاً أو طمعاً، فيما لا يجد حمد إلا الصدود وعدم المودة، ودوس صورته تحت الأقدام.
ولا بد، قبل أنهي، أن أشير إلى أن المناداة برحيل الملك تختلف عن المناداة بسقوط النظام. لأني أقترح المطالبة باسقاط حمد، الملك، علّ ذلك يفتح الباب للتوافق الوطني، وبدء مسيرة التحول الحقيقي للديمقراطية، عبر مساواة العائلة الحاكمة بعموم المواطنين، وتحديد صلاحيات رأس الدولة، وإحالة البعد التشريعي لبرلمان منتخب، والشأن التنفيذي لحكومة منتخبة.
إن رحيل حمد قد يفتح باباً لنجاة البلاد، سواء بفعل انقلاب داخل العائلة، لا تبدو ملامحه متوافرة (كما حدث للملك السعودي سعود بن عبدالعزيز في 1963)، لكنه (الانقلاب) أمر متبع في العوائل الحاكمة في الخليج، وداخل العائلة الخليفية ذاتها، أو أن يتم رحيل حمد بفعل قرار دولي، لا أرى أن موانعه كبيرة، إذا ما حسمت المعارضة خياراتها بالمناداة برحيل حمد، ورفضت التعاطي معه، وحشدت ضده داخلياً وخارجياً.
وغني عن القول إن تغيير الحاكم الخليفي في 1923 بآخر من العائلة نفسها، لم يغيّر شيئاً في البلاد، لذا يتوجب مجدداً التذكير بأن رحيل الملك الحالي لن يعني شيئاً إذا لم يترافق مع إعادة هيكلة الحكم على أساس مبدأ: «الشعب مصدر السلطات».
* صحافي بحريني ــ لندن