أحصيت ثلاثة اتجاهات في ردود أفعال النشطاء السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي، بشأن اعتقال لؤي حسين، رئيس "تيار بناء الدولة". موالون يعتبرونه "عميلاً"، ومعارضون يعيدون نشر مقال له بعنوان "سقوط مقولة المخلص في الانتفاضة السورية" (الحياة 23 تموز 2014)، وآخرون يعربون عن دهشتهم إزاء الحدث "غير المتوقع"، ويشككون بأن اعتقال الرجل هو مسرحية لتعويمه سياسياً.
لم يدن القضاء السوري لؤي حسين بالعمالة؛ ولذلك، لا يصح، أخلاقياً وسياسياً، توجيه مثل هذا الاتهام له أو لأي معارض سوري ما لم تكن هناك قرائن؛ ففي صفوف "المعارضين"، هناك، بالفعل، عملاء أدانوا أنفسهم علناً من خلال ارتباطاتهم، كمرتزقة، بأعداء سوريا الإمبرياليين والرجعيين والعثمانيين. ولقد نشط هؤلاء في دعم الإرهاب واستجداء التدخل الأجنبي. صحيح أن لؤي حسين لا يسميهم بما يليق بهم، أي بصفتهم عملاء، لكنه، في مقاله المنوّه عنه أعلاه، يدين عقلية انتظار مخلص أجنبي، ويدعو إلى اكتشاف مساحات الحوار مع النظام، بل ينتقد نفسه لأنه ساير الهوس بمقاطعة الحوار الوطني، مهما كانت فرصه محدودة. وهذا منحى إيجابي.
غير أن من الواضح أن لؤي حسين لم يتحرر من لغة المقاطعين؛ فهو يصف الجيش العربي السوري، الذي يحمل على عاتقه أعباء الدفاع عن نمط الحياة المتحضر في المشرق كله، بأنه تحوّل إلى "ميليشيا"! وهذا وصف غير موضوعي، وغير لائق، أخلاقياً وسياسياً؛ فالساعي، بالفعل، إلى بناء الدولة السورية سوف يعمل على تحييد الجيش الوطني من الصراع السياسي، طالما أنه الضمانة الوحيدة لبقاء الدولة الوطنية السورية، ووحدتها وسيادتها.
لا أرى في اعتقال لؤي حسين، بطبيعة الحال، عملاً مسرحياً كما يعتقد العديد من السوريين الذين يعتبرون أن "تيار بناء الدولة" هو أصغر من أن يشكّل تهديداً، وأقل من أن يكون محاوراً، ما تطلب تسليط الأضواء على رئيسه، وتأهيله باعتقاله.
حسناً؛ ليس خافياً على أحد حجم "التيار". وهذا لا يعيبه؛ فمن حق كل مواطن لديه رؤية فكرية سياسية أن يقترح برنامجاً، وأن ينظّم حركة، قد تكون، اليوم، محدودة التأثير والانتشار، ولكن مستقبلها يظل مفتوحاً، وفقاً لصحة خطها السياسي وقدرتها على تمثيل حساسية اجتماعية ثقافية واقعية.
بالنسبة إليّ، فإن الخط الصحيح لأي حركة تقدمية ديموقراطية تنموية، يقوم على ثلاثة أسس، هي، أولاً، الوطنية بالمعنيين، (1) أولوية وحدة الجمهورية وسيادتها وتعبيرها عن المصالح الاستراتيجية للبلاد، (2) تجاوز الطائفية والمذهبية والجهوية، وتمثيل المصالح الجماعية للمجتمع والدولة؛ ثانياً، الرفض المبدئي لاستخدام السلاح إلا في حالتَي صد العدوان الأجنبي ومكافحة الجماعات الإرهابية؛ ثالثاً، النهج الجبهوي. فالبلدان المستهدفة بالعدوان، لا تحتمل الصراعات الجذرية، وإنما النضال الاجتماعي والديموقراطي في سياق تجميع القوى الوطنية، على تعارضها، في جبهة.
من سوء الحظّ أن المعارضين السوريين الوطنيين خضعوا، طوال سنوات الأزمة الأربع لابتزاز العملاء والإعلام الغربي والخليجي، كما لابتزاز شعبوي ديماغوجي له مضمون طائفي ورجعي. وهكذا، فشلت الحركات والشخصيات الوطنية في بناء جبهة وطنية موحدة في سوريا تساهم في الدفع بمسار الأحداث نحو فعل سياسي وطني، يعزل العملاء والإرهابيين، ويفرض العقلانية على الاحتجاجات الشعبية ذات الطابع الاجتماعي والديموقراطي.
حتى الآن، لم يقم المعارضون الوطنيون بمراجعة نقدية لما انتهجوه من سياسات منذ 2011، ولم يتوصلوا إلى إدانة صريحة للعملاء والتنظيمات المسلحة والجماعات الإرهابية والتدخلات الغربية والإقليمية. وأريد التأكيد، هنا، على أن المهمة رقم واحد بالنسبة إلى أي معارض للنظام السوري الآن هي النضال السياسي والمسلح ضد الإرهابيين والتدخلات الأجنبية. وهو ما يمكن أن يعطي الشرعية الوطنية للنضال ضد الفساد والاستبداد.
المشكلة الجوهرية لدى المعارضين الوطنيين السوريين أنهم حاولوا ولا يزالون يحاولون الإفادة من الصعوبات التي تواجه النظام، ولا يرون أنها صعوبات تواجه الدولة والمجتمع في سوريا؛ وإذا كان صحيحاً أنهم ضد التدخل الغربي والرجعي، فإنهم يعلّقون الآمال على صيغة تسوية تفرضها روسيا. وهذا وهم أيضاً؛ فموسكو تنظر إلى النظام السوري باعتباره حليفها الأول في سوريا، ولا تغامر بهذا التحالف أبداً، كما أن السياسة السورية تجامل الحلفاء بلا حدود، ولكنها لا تسمح، في النهاية، للحلفاء بالضغط عليها في المفاصل الرئيسية.
لا يعني كل ذلك أنني أقبل باعتقال لؤي حسين أو أي ناشط سياسي وطني سلمي في سوريا أو سواها؛ فظاهرة الاعتقال السياسي ينبغي أن تحوَّل إلى المتحف، كما لا يجوز اعتقال المثقفين تحت أي بند كان، وإلا فإن تجريف الحياة السياسية والثقافية سيبقى مستمراً لصالح السلفية والتكفير والإرهاب.