قد يقول قائل إن ما جرى على الأرض خلال الأسابيع الماضية في بلاد الرافدين لم يكن مرتبطاً في أصله بأهداف استراتيجية. في النهاية، مع وصول مقاتلي "داعش" إلى تخوم بغداد، لم يكن لدى الحكومة العراقية وحلفائها ترف التخطيط البعيد الأمد. كان لا بد من وقف الزحف التكفيري، فكانت فتوى الجهاد الكفائي للسيد علي السيستاني وما تبعها من تطوع مئات الآلاف في ما عرف لاحقاً بالحشد الشعبي. سد بشري أوصل "داعش" إلى ما يعرف عسكرياً بنقطة الذروة في التوسع.
أمام واقع كهذا، لم يكن لدى بغداد وأصدقائها من خيارات سوى العمل وفق ما تمليه الكتب العسكرية. وقف الزحف الداعشي كان بالتأكيد لمصلحة بغداد، لكنه كان سرعان ما سينقلب عليها لو فشلت في تحقيق أمرين: امتلاك زمام المبادرة، وكسر اسطورة المقاتل الداعشي الذي لا يُهزم. لم يكن تحصين المناطق الموالية كافياً وحده. صحيح أنه كان سيمنع سقوط المزيد من الأراضي في أيدي التكفيريين، لكنه كان سيعطيهم الفرصة لتجذير سيطرتهم في المناطق التي يحتلونها. معروف أن الجماهير، في واقع كهذا، سرعان ما تتأقلم مع الوضع الجديد، وتندرج ضمن أطره، وخاصة أن البيئة المعنية تحمل من النقمة السياسية والاجتماعية ومن الحامل الإيديولوجي ما يؤهلها لذلك.
يراهن الأميركيون
على تكرار تجربة
٢٠٠٧ عندما حاولوا بناء قوة موازية للجيش

من هنا كانت الهجمات المضادة التي لم تهدأ يوماً، والتي رمت، في ما رمت إليه، إلى كسر الصورة النمطية عن مقاتل “داعش” الذي يفر من أمامه الجميع حالما يدخل منطقة بعينها. نصر أميرلي، تلك المدينة الشيعية المحاصرة التي حُررت في أوج انتصارات "داعش". وجرف الصخر، تلك المنطقة العصية، ليس اليوم فحسب، بل منذ أيام صدام حسين الذي فرض فيها واقعا ديموغرافيا على بوابة الجنوب العراقي وعلى تخوم كربلاء، ومن أيام الاحتلال الأميركي الذي لم يدخلها يوماً بل تركها أداة لابتزاز من يتمرد على سلطته من أهل المنطقة. قبل أن تقر السبحة بتحرير ديالى (باستثناء منطقة جلولاء) والسد العظيم وبيجي و...
في خلال كل هذا الحراك، بدا واضحاً أن هناك أهدافاً رديفة لكل ما يجري. صور الجنرال قاسم سليماني التي تكرر ظهورها في كل معركة رئيسية لم تأت صدفة، هو الذي نادرا ما كان يُسمع له صوت أو تُشاهد له صورة. الإصرار على خوض كبريات المعارك من دون الدعم الجوي لما يعرف بقوات التحالف لم يكن بريئاً. بدا واضحاً أن قراراً قد اتخذ في مكان ما، مع الإعلان عن هذا التحالف "المشبوه"، بوجوب التأكيد بالدليل والبيان أن الآتي من وراء البحار ليس معنياً بتدمير "داعش"، بل ذاك المحور الذي تقوده إيران. هناك من كان متأكداً، بدليل رزم المساعدات التي كانت ترمى لمقاتلي التنظيم التكفيري من الجو عند كل مفترق عسكري، أن قادة التحالف، الذين كان لهم شرف الإشراف على ولادة "داعش" ورعايته، إنما أرادوه أداة ميدانية لابتزاز حكومة بغداد ومن خلفها إيران، قبل أن تنحرف عن المسار المرسوم، وتضرب أهم حلفاء أميركا في المنطقة: كردستان و... السعودية.
بل أكثر من ذلك. بُذلت الجهود حثيثة، بقدرات ذاتية، لإسقاط الرهان الأميركي على "داعش" كورقة ابتزاز لحكومة بغداد وإيران، وتحويل الورقة التكفيرية إلى خطر على حلفاء أميركا. ولما تحقق المراد، باتت إيران حاجة أميركية لإبعاد خطر "داعش" على أصدقاء واشنطن، من دون أن يلغي ذلك حاجة الأميركي لإبقاء تلك الورقة كفزّاعة، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، لكنه خيار ينطوي على تهديدات قد لا تكون لدى الأميركيين القدرة على ضبطها، بدليل ما حصل حيال أربيل والسعودية.
من هنا يمكن فهم تزايد الترويج الأميركي لتدخل عسكري بري في العراق، مرفقاً بزيادة للعدد الرسمي المعلن للقوات الأميركية في بلاد الرافدين من ١٥٠٠ إلى ٣٠٠٠ عنصر. بات الحضور الفيزيائي ضرورياً لمنع تقدم الطرف الآخر ولتحقيق الأهداف الأساسية لذاك التحالف: إعادة صياغة البنى السياسية والعسكرية للنظام العراقي بما يضمن توازن من النوع الذي يكفل عودة النفوذ الأميركي إلى بلد كلف احتلاله واشنطن 1.7 تريليون دولار وغادرته قواتها في 2011 خالية الوفاض.
يراهن الأميركيون، على ما يبدو، على تكرار تجربة عام ٢٠٠٧ ــ 2008، عندما حاولوا بناء قوة موازية لجيش، أنفقوا عليه بين ٢٠٠٥ و٢٠١١ أكثر من ٢٥ مليار دولار. كان اسم القوات الموازية في ذلك الوقت "الصحوات" وقد قضى عليها نوري المالكي مع خروج آخر جندي أميركي من العراق. اليوم يأمل الأميركيون نجاح التجربة الجديدة، التي طلبت إدارة أوباما من الكونغرس خمسة مليارات دولار لتمويلها، بينها 1.6 مليار دولار لبناء ما بات يُعرف بالحرس الوطني المخصص للمحافظات، التي تقول بغداد إنه سيؤدي إلى تقسيم البلاد، وذلك في مقابل هجوم عنيف يشنونه على قوات الحشد الشعبي، الذي يطالبون بأن يكون فصيلاً هامشياً في القوات المسلحة العراقية، وأن يمنع قادته من المشاركة في اجتماع القيادة العسكرية، فضلا طبعا عن رفضهم التعاون معه ميدانياً (وصل إلى قاعدة الأسد غربي العراق ٥٠ مستشاراً أميركياً، علماً بأن تلك القاعدة تضم مئات من عناصر سرايا السلام التابعة للتيار الصدري ومن منظمة بدر، وهما جزء من الحشد الشعبي).
ختاماً يجب ألّا نتجاهل معطى مهما، يتمثل في المفاوضات النووية الأميركية الإيرانية، التي لو انتهت إلى اتفاق من نوع ما، فلا بد أن ينعكس على علاقة الطرفين في الداخل العراقي، حيث يتوقع أن تصبح أكثر تناغماً. أما إذا لم يحصل اتفاق كهذا، فلا شك في أن هناك حرصا أميركياً إيرانياً على تجنب الصدام المباشر. الأيام القليلة المقبلة ستكون حاسمة في هذا الشأن.