أوّل ما قد يخطر في بال زائر بدادون (قضاء عاليه)، بعد أن يمضي ساعات فيها «كيف لمن ولد في هذه القرية أن يغادرها؟». هنا، الضيعة لا تزال ضيعة على الرغم من قربها من بيروت. الطرقات ضيّقة، والبيوت الحجرية، المزيّنة بالقرميد، سمة عامة. منها ما حافظ على قدمه، ومنها ما رُمّم. الأشجار المثمرة موجودة أمام كلّ منزل تقريباً. الكلمنتين والجوافة والأفوكا هي ضيافة المنازل هذه الأيام، لكنها لا تغني عن سمعة البلدة في «الجنارك» التي كان يقام لها مهرجان سنوي، وكانت صباح تشارك أحياناً في إحيائه. حتى الباصات التي تقلّ التلامذة إلى مدارسهم، تشبه في هيكلها البوسطة اللبنانية الشهيرة الراسخة في ذاكرة كلّ منا.
ربما تخفّف اللافتة المرفعة عند مدخل بدادون من وطأة السؤال «الرومنسي» عن سبب مغادرة صباح لهذه البلدة الجميلة، وهي الحالمة منذ طفولتها بالأضواء والشهرة. إذ تحمل اللافتة الممتدة على عرض الطريق بعض كلمات أغنية «راجعة ع ضيعتنا» مع صورة لابنة البلدة. لم تكن هذه العبارة مجرد أغنية، إذ كرّرتها صباح كثيراً في السنوات الأخيرة من حياتها، مؤكدة رغبتها أن تدفن في بدادون، التي بقيت تحرص على زيارتها. فكانت تشارك في المناسبات الاجتماعية، وتقوم بواجباتها. كما تلبي دعوات أهل البلدة إلى إحياء حفلات أو نشاطات. هنا، الكلّ يخبر عن مرة رآها فيها «في صالون الكنيسة»، «في حفل أعدّ لتكريمها»، «في واجب عزاء»... لكن من يعرفها فعلاً، قلّة في البلدة.

انتشار الأغاني مجدداً

«عزيز يا عزيز الحب شو لذيذ/ وتركنا الضيعة وصفّينا بباريس/ كرمالك يا عزيز».
تنطلق أغنية صباح هذه من سيارة أحد أبناء بدادون. لم يكن الصوت مرتفعاً، لكن السائق رفعه عندما شاهد كاميرا «الأخبار» وحزر أنّ هناك من يسأل الأهالي عن «الصبوحة» كما يسميها. يتطوّع الرجل الأربعيني لتقديم «أية خدمة، لكن لا تسألوني عنها. لا أعرف عنها أكثر مما تعرفونه». وما نعرفه، هو ونحن، «هذه الأغاني التي عدنا نسمعها».
كثيرون في البلدة عادوا يبحثون عن أغاني صباح. منهم من قصد مدينة عاليه المجاورة لشراء «السيديات». ومنهم من نبش أرشيفه، واستعاد أشرطة الكاسيت القديمة التي كانت في حوزته. أغاني الميجانا و«الأوف اللي ما بتخلص» هي المفضلة بالنسبة إلى غندور الفغالي. يقيم الأخير قرب البيت الذي سكنت فيه صباح طفلة قرابة السبع سنوات. «كان أبي يخبرنا أنه كان يلعب معها ومع أخواتها». يضحك وهو ينقل عن أبيه «قالت له مرة: يا ملعون يا بطرس، ع أساس بدك تاخدني. رحت أخدت كارولين؟».
من أمام هذا البيت، الذي لم يبق منه ما يذكر بماضي صباح إلا القناطر، حيث كانت تلعب، يمكن رؤية البيت الذي ولدت فيه. نقصده، وقد آل إلى جورج أنيس الفغالي. وكما حصل في الأيام الأخيرة، صار هذا البيت مقصداً لوسائل الإعلام. لا تزال الغرفة التي ولدت فيها صباح على حالها، تقول لنا صاحبة المنزل، نقلاً عن والدة زوجها التي توفيت. زارت صباح هذا البيت في منتصف السبعينيات، مع زوجها آنذاك وسيم طبارة، وكانا يريدان إنجاز فيلم «لكنه لم ينجز. ما أتذكره أنها كانت لطيفة وجميلة».

العفريتة

تنصحنا السيدة بسؤال جارة صباح منذ الطفولة برينيس الفغالي عن حياتها في القرية. يقع بيت برينيس على بعد خطوات، ويمكن الوصول إليه عبر ممرّ صغير بين أشجار الليمون المثمرة. نطرق الباب، فتفتحه مايا، العاملة الأجنبية، وتبتسم بعدما اعتادت أخيراً على استقبال ضيوف مجهولين. تسبقنا إلى غرفة برينيس، الراقدة في سريرها مع خيطان الصوف والصنارة التي لا تزال تصنع منها جوارب وكنزات لأولادها وأحفادها.
كثيرون في البلدة عادوا يبحثون عن أغاني صباح ويشترونها


تعدّ البلدية لجنّاز الأربعين وفي بالها إعلان التصوّر النهائي للمتحف


تحكي هذه السيدة، ابنة الواحد وتسعين عاماً، الكثير عن جانيت وعائلتها، والقليل عن صباح. تقول إن جانيت «خلقت ع إيد حماتي، حماتي كانت داية» (قابلة قانونية). وتنقل عن حماتها أنهم كانوا في الماضي «يحطوا ماي وملح ويحنّكوا الولد بس يخلق ت يطلع صوته حلو».
لكن صوت عائلة صباح كان جميلاً. «جدّها الخوري لويس الفغالي كان صوته يصل إلى بسوس عندما يقدّس. وعمّها شحرور الوادي، معروف. وهي، كان صوتها قوياً منذ طفولتها، وكانوا يبرطلوها بالمصاري حتى تقول أبو الزلف». كان طبيعياً أن تتقن هذا النوع من القول، بما أنها عاشت مع عمّها سنوات طفولتها الأولى وحفظت بعض أشعاره. حتى شقيقها انطوان «كان يقول حلو» تضيف بريينيس. وبذاكرة لافتة، تروح تردّد ما تقول إنها سمعته يغنيه مرة:
«إذا بساعة نزاعي بتسمعي/ لَيّي تعي وتبسّمي ولا تدمعي
حتى بعيوني صَوْرِك صورة وداع / وطبّق جفوني وآخد الصورة معي».
كان هذا قبل هربه إلى البرازيل «بعدما حرّضه والده على قتل أمّه». تتذكر برينيس تفاصيل الهرب «كان انطوان مختبئاً في الغرفة التحتية عند جيراننا، وقدم إلى البلدة 44 عسكرياً للقبض عليه. أردناه أن يعرف، ولا يخرج من مخبئه. سألتني جارتي من تحت: ما الذي يحصل هنا؟ أجبتها: يوجد 44 عسكرياً يفتشون. وبعد رحيل العسكر، خرج أنطوان من الغرفة ولم نره منذ ذلك الحين».
تدمع عينا برينيس: «معتّرة جانيت. أخبروني إنها قالت قبل يومين من وفاتها إنها تحب شقيقها أنطوان كثيراً (توفي عام 2009). شلطلها قلبها لأنه راح فدا العيلة»... تتوقف عن الكلام متأثرة، تعتذر «بس بتبكيني هيدي صباح. ما إلها حظ». تعرف السيدة الكثير عن حياة الشحرورة، وعائلتها، ما يجعلها واثقة من حكمها الذي يتجاوز «أيام العزّ» التي عرفتها صباح «ليه خلّت معها شي؟ كانت كريمة بجنون، مثل أمها».
بحكم الجيرة، كانت برينيس التي تكبر صباح ببضع سنوات تهزّ المرجوحة للطفلة الشقراء. وعندما كبرت «كنت أنام عندهم في البيت مع أخواتها جانيت ولميا، وكانت صباح شقية ويناديها أهل الضيعة بالعفريتة».
آخر مرة التقت برينيس بصباح كانت قبل ثلاث سنوات (كما تذكر هي) «طلب مني رئيس البلدية أن أدعوها لتشارك باحتفال في الكنيسة، فذهبت إلى الحازمية ودعوتها ولم أنس أن أحمل لها الجنارك. قالت لي: انت محبّة طول عمرك» وأكدّت أنها ستحضر «كيف لكن؟ أنا من بدادون، وبدي أرجع ع بدادون».
ربما كانت الدعوة التي قصدتها برينيس، هي حفل التكريم الذي أعدّته البلدة لصباح عام 2007. إذ يذكر رئيس البلدية هذا الاحتفال المصوّر، وامتدّ لأربع ساعات غنّت صباح خلاله قليلاً، كما طلبت أن تدفن في البلدة قرب عمها وشقيقاتها. وكانت صباح، زارت البلدة بعد وفاة شقيقتها لمياء عام 2005، وبقيت فيها لتقبّل العزاء.

العودة

لكن لم يعتقد الكثيرون أن صباح من وادي شحرور؟
يرجّح غندور الفغالي أن يكون السبب مرتبطاً بعمها شحرور الوادي من جهة، وبإقامتها هي هناك لاحقاً. علماً أن شحرور الوادي، كان واضحاً في تقديم نفسه، عندما قال عن نفسه وعن الشاعر خليل روكز:
«الشحرور وبو الخلّ اتنين/ عاشوا وزرعوا الأرض فنون
وتركوا المنبر يسجد بين/ بدادون ووادي الليمون».
بين وادي شحرور وبدادون، تقع حومال. قرية عاشت فيها صباح أيضاً. فأدّت لها تحية الوداع يوم الأحد الفائت، قبل أن نصل إلى مدافن العائلة قرب كنيسة السيدة في بدادون. هنا، لا تزال الأكاليل تحافظ على رونقها. وعليها بطاقات المحبين والكلمات الجميلة وأبرزها عبارة فيروز لها «شمسك ما بتغيب». لكن الأجمل، زيارة أطفال المدارس لها، وثنائي اختار أن تكون رحلته ذلك اليوم إلى ضريح صباح. يقول الشاب: «أنا من بيروت، وصديقتي من ضهور الشوير. ولأننا لم نستطع المشاركة في تشييعها حرصنا على زيارة ضريحها».
في الأشهر المقبلة، ربما سيكون متاحاً لزوّار الشحرورة أن يقصدوا المتحف الذي تنوي البلدية إعداده لها. يقول رئيس البلدية الياس الحويّك إن النية قائمة، ولا شيء حتى الآن يمنع تنفيذها «الأرض موجودة، وعرض علينا بعض المقرّبين منها أربعة أو خمسة من فساتينها التي ارتدتها خلال مسرحياتها. كلّ فستان له مسرحية وله قصة وأعتقد أنه سيكون أمراً ناجحاً». إضافة إلى ذلك، هناك أشخاص كانت صباح قد وزّعت عليهم ثيابها «وقد يعطوننا إياها لنضعها في المتحف أيضاً، عدا عن أغانيها وأفلامها». كلّ شيء سيجرى إيضاحه خلال إحياء جنّاز الأربعين الذي يجرى التحضير له منذ اليوم.




شحرور الوادي



لا يغيب شحرور الوادي من ذاكرة السيدة برينيس الفغالي. كان قد وعدها أن يصل صوته في عرسها إلى بلدة بسوس «لكنه توفي عام 1937، وأنا تزوجت عام 1937». تحفظ له قصيدة قالها في امرأة كان يحبها «بحبّك بحبّك أد ما تعمل معي» وتلقيها كاملة رغم طولها. كما تحفظ له إجابة على ثلاثة أسئلة طرحت عليه مرة، إذ قال: «بحب اللي ما بيعرف الله، وبهرب من رحمة الله، وبكره الحق». ولدى سؤاله عما يقصده، شرح: أحب الطفل وهو لا يعرف الله، وأهرب من الشتاء وهو رحمة من الله، وأكره الحق لأن الموت حق.