كل البلد في مأزق. مأزق متمادٍ منذ عشرة أعوام على الأقل. في 14 آذار يقولون إن سببه واضح: بشّار الأسد لم يخرج من لبنان. وهو ورث عن والده تركتين رئيسيتين يستثمرهما حتى آخر نفس: سلاح حزب الله في لبنان، ببعديه المحلي والإقليمي، والخواء السياسي في سوريا، حيث فرض أمراً واقعاً عنوانه: إما أنا وإما فوضى الإرهاب. وبين التركتين ــــ الأداتين، لا مشكلة عند بشار إن تفجّرت بيروت أو تهدّمت دمشق...
هكذا يقولون في 14. في المقابل ثمة نظريتان مناقضتان لتبرير المأزق لدى تحالف 8 آذار وعون: أولاً، هناك تلك المؤامرة المكتوبة لضرب سلاح حزب الله، خدمة لاسرائيل وحسابات أميركا. فكيف إذا تقاطعت تلك مع مصالح أنظمة عربية عدة. ثم هناك نية الاستئثار بكل السلطة، مع من يرفض أن تكون في البلد شراكة، بل شركة. يقولون إن اللغة تفضح أحياناً، خصوصاً عفويتها. قبل أسبوع، في «خطاب» سعد الدين الحريري المتلفز، كرّر الرجل مرات عدة عبارة: «عندي بالتيار»، يقصد طبعاً «تياره»، أي «حزبه». أي جماعة بشرية، أشخاص، ناس، لهم أسماء ورؤوس وعقول، وتؤطّرهم أنظمة وقواعد وأصول ديمقراطية ــــ يفترض ــــ على مشارف سنة 2015... ويقول عنهم الزعيم: «عندي بالتيار». هم «عنده» إذاً. هم كلهم من «عندياته». فكيف تكون نظرته إلى الشراكة والوطن والمواطن والخير العام والشأن العام وغيرها من مفاهيم غير مألوفة «عنده»، ولا عند من يعكسون عليه عندياتهم؟! في تحالف 8 آذار – عون، يقولون إن المأزق علّته هذه: هناك من يريد كل شيء، من دون استثناء أي شيء. ولتحقيق ذلك صمّم على تذليل عقبات ثلاث: ضرب سلاح حزب الله، تهميش زعامة المسيحيين، وإسقاط بشار الأسد. التقت الأهداف الثلاثة مع مبادئ السيدة كوندي «النفطية اللون»، كما سماها جنبلاط مرة، فركب المخطط، وفاضت قريحة «ويكيليكس»!
كل النظريات ممكنة. وكل المحاججات منطقية ومتروكة لامتحان التاريخ والحقيقة. لكن تبقى علة أخرى للمأزق المتمادي والمتوالد، اسمها الأشخاص. الطبائع والسلوكيات والذهنيات. ما لا يكتب ولا يحكى. هذه ثلاث وقائع، مجردة جامدة، من أفواه أصحابها، تؤشر إلى ذلك الجانب العميق من مأزقنا:
واقعة أولى، عمرها 23 عاماً بالتمام. في مثل هذه الأيام من العام 1991، ذهب الياس الهراوي إلى دمشق. الخبر طبيعي. فالمناسبة عقد لقاء قمة بينه وبين الرئيس السوري يومها حافظ الأسد. ثمة تفصيل بسيط في الخبر. أن اللقاء بين الرجلين كان العاشر على التوالي في دمشق. لم يكن قد مضى على ترئيس الهراوي إلا عامين وبضعة أيام. ومع ذلك كان قد ذهب عشر مرات إلى الأسد. بعدها ذهب عشرات المرات. بينها واحدة مرة ليقصي ابن أخيه عن رئاسة لجنة نيابية. ودوماً كانت البيانات الختامية للقمم الرئاسية تحصر المباحثات في القضايا القومية... لكن كل ذلك لم يمنع بعض «رجال الرئيس» الراحل ونسائه، من التظاهر في 14 آذار، تحت عنوان: «خلصنا بقى!». ولم يحل دون إنشاء جائزة باسم الرجل، تتهافت على كرنفالها أحذية صالون البلد السياسي بنصاب كامل.
واقعة ثانية، سابقة ومؤسسة. بعد دخول صدام إلى الكويت في 2 آب 1990، أدرك حافظ الأسد أن الفرصة قد سنحت لأخذ لبنان. واشنطن تحتاج إليه لتغطية حربها في الخليج، وهي بالتالي مستعدة لدفع الثمن في سوق بيروت، عبر سوق الغرب. عندها فقط تحرك اتفاق الطائف. أنجز نصه في حكومة سليم الحص، وأحيل إلى مجلس النواب لإقراره. أراد الأسد أن يقبض كل شيء سلفاً. فهم سمير جعجع اللعبة. فضغط على نواب الشرقية لتطيير جلسة نصاب تعديل الدستور. جاءه عندها محسن دلول، محاولاً إقناعه بالسير في تطبيق الطائف كاملاً. قال له جعجع: الأميركيون طلبوا مني هذه الخطوة ولم أعطهم إياها. فلماذا أقدمها لك؟ رد «أبو نزار»: حسناً فعلت بأنك لم تبعها إلى الأميركي. ولو فعلت لذهبت هدراً. ثم إنك لن تبيعها لي. بل لحافظ الأسد شخصياً. سأله جعجع: هل تضمن ذلك؟ ففعل دلول، وصار الطائف دستوراً... كل امتيازات الجمهورية الأولى وضماناتها وتوازناتها وصلاحياتها ورئاستها، بيعت للأسد شخصياً. لكن ذلك لم يحل دون الاعتقال «الظالم جداً»، ودون بطولات السيادة اللاحقة!
واقعة ثالثة، معاصرة جداً: لا يزال إميل لحود وجميل السيد حتى اللحظة، يتساجلان، سراً وعلناً، حول من جاء بميشال سليمان قائداً للجيش. لحود يظن أن غازي كنعان فرضه عبر السيد. بينما السيد يصرّ على أن «أبو يعرب» فرضه على لحود عبر الياس المر. المهم أن لحود ذهب إلى بيته، والسيد ذهب إلى الاعتقال ومن ثم الإفراج، وكنعان ذهب إلى الانتحار، بينما ميشال سليمان صار رئيساً، ثم تحول زعيماً لإعلان بعبدا السيادي الاستقلالي الفريد من نوعه، ولو أنه يحمل جواز سفر كندياً أصلياً، بدل جوازه الفرنسي المزور، لكان أضحى ربما، منذ يومين، أميناً عاماً لفرانكوفونيي كل الأرض!
ثمة مأزق في البلد. أسبابه سياسية كثيرة. تبدأ في فلسطين ولا تنتهي حيثما حل «الانتشار» اللبناني المعظم. لكن ثمة سبباً آخر لمأزقنا، ولكل مآزقنا ومآسينا. هو نوعية البشر عندنا. نوعية نحو 500 بشري يشكّلون بالتكافل والتضامن والتكاذب والتنافق، كل صالوننا السياسي الحاكم. ونوعية ما يقارب خمسة ملايين بشري، لم يدركوا بعد كيف يتخلصون من الخمسمئة.
10 تعليق
التعليقات
-
له له الله يلعن الشيطان ! أين الجواز!؟؟بإختصار إستاذ جان الحمدلله الذي وهبنا في لبنان !!!.. الحمدلله الذي وهَبَنا .ساسةً ونوَّاب و وزراء وعائلات تتوارث الحكم و................!و...!!!!!!!! ....! حتى تشهَد عليهم جوارحهم وأهلهم ايضاً يوم القيامة، فتُنبِئُنا بالتفصيل بما كانوا يرتشونَ و يسرقونَ ويقتلون !..و... الحمدلله الذي وهبنا أناس جُبلَت على الخير والعطاء، والإيمان والتَّفاني حد الإستشهاد في خدمة الوطن ( وليس البلد!). الحمدلله الذي وهبَنا قلماً عزيزا في زمنٍ صار حِبر الأقلام بِلَون الذهب الأسوَد و الأخضر !... الحمدلله الذي وَهبنا سيداً حُرَّاً شريفاً وعوناً جنرالاً في زمن عزَّ فيه الرجال!. ولكن: الله يلعن الشيطان !. ليش هيك: ليش تأخر جواز السفر الكندي الأصلي بتاع الرئيس السابق ل ( البلد!). هيك راحت وذهبت أدراج الرياح كذا سفرة سياحة وبالمجَّان في بقاع الارض من حساب الرئيس السابق وهكذا للأسف لن تستفيد الفرانكفونية العالمية من الخبرات اللبنانية ودمتم بمنأى عن النأي بالنفس وأهله!. بعيد الشر عن الجميع !.
-
البلدعندي في التيّار !! يصطفل هو وجماعته ، وهم راضون بهذه التسمية . ما أزعجني أنا هو إعتماد كلمة " بلد " . وقد جرى تداولها عشرات المرّات بين المتحاوريَن و الناس فهمانة ان المقصود هو لبنان. تُرى لماذا يبدو دائماً لدى رئيس حكومة لبنان ، من رشيد كرامي إلى سعد الحريري ، صعوبة التلفّظ بكلمة لبنان و يستعيضون عنها دائماً بكلمة البلد .
-
أليس هؤلاء مثلنا يا أستاذأليس هؤلاء مثلنا يا أستاذ جان؟ ألا نستحق هكذا زعماء لأننا لسنا بأفضل منهم؟ "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
-
لغزخمسه ملايين بشري غير قادرون علي التخلص من خمسمئة منافق ودجال وحرامي. مهما حللت وتعجبت ومهما طرحت من اسئله علي سكان بلد العجايب لبنان ، لن اجد جوابا . ولا اعتقد انه في امكان اي طبيب نفسي او محلل اجتماعي ان يفك لغز لا مبالاه الخمس ملايين . يقولون تعبنا ! مين أتعبكم غير حكامكم ؟؟!! ماذا تنتظرون ؟؟؟؟ لن تأتي الرحمه في سله من السماء. تحركوا والله شيء مخجل ومبكي نومكم العميق !
-
رائع يا استاذ جان في تحليلاتكرائع يا استاذ جان في تحليلاتك ومقالاتك دائماً تضع الاصبع على الجرح ، ولكننا ننعش ذاكرتك باضافة واقعة بسيطة ايضاً رسالة الجنرال عون قائد الجيش اللبناني الى حافظ الاسد مع محسن دلول والبير منصور "ليعتبرني الرئيس الاسد جندياً صغيراً في جيشه " (للوصول الى الرئاسة ) من ثم رسالة ابو جمال اليه اثبت انك رجل في الشرقيةوانك وحدك الممسك بها، عبر ضرب القوات اللبنانية ، وعندها بامكانك ان تصبح رئيس ،وعندما فشل في ذلك ،،،، كان ما كان من حرب تحرير. والسلام
-
هنا مربط الفرس،ابو بيت القصيد،خمسمائة لخمسة ملايين نسمةان تنتج جمهور ذو عقلية مختلفة ورؤية عصرية تحتاج عند الشعوب المتآلفة دهرا من الزمن،فكيف الحال عند اقوام يتنطحوا لمناصرة فيل في الصين نكاية بجار او صديق.مقالة رائعة تبين تبدل اثواب البشر كالافاعي مع كل مرحلة مصلحية.وحال هذا اللبناني لن يتبدل الى احسن حال الا اذا عدل من رؤيته الفطرية للامور،ان تولد وتكبر بالفطرة امر،وان تستمر على الفطرة،امر آخر،والى ان تتبدل النفوس سيبقون اهل السياسة هم الرعاة والقطيع والحكم.
-
لكي لا يضيع التاريخأستاذ جان، حبذا لو تصديت لحفظ هذا التاريخ الغير مشرف بين دفتي كتاب يوثق خصوصا مرحلة العهد الأسود الذي أسس بنيان كل الأزمات التي نعانيها اليوم ، و اقصد به عهد ثالوثا الفساد في سوريا و لبنان، عهد " الشغل ماشي و الحكي ماشي" تبا لذاكرة الطوائف و المذاهب في لبنان كم هي قصيرة... اكتب كتابا لعله يأتي زمان فيه من يقرأ..