صار لقاء عون - جعجع شبه مؤكد. علماً أنه حتمي في المبدأ. نظراً إلى مسؤولية الرجلين، وإلى مصيرية الاستحقاق الذي يقاربانه. أصلاً، ليست المرة الأولى التي يلتقيان في السياق نفسه. بل عرفا تلك اللحظة مرتين سابقتين على الأقل. وتهيباها. ثم بعد التهيب، أعدا لها واستعدا. قبل أن يتباعدا ويتعادا. لكن هذه المرة قد تكون الأخيرة.
أول لقاء بين عون وجعجع في الظروف نفسها، كان في 21 أيلول 1988. كانت ولاية أمين الجميل قد انتهت عملياً. وكان الشغور الرئاسي قد تحول واقعاً. وبين انتهاء الولاية واقتراب الفراغ، تحركت آخر مساعي الوقت الضائع. جاء ريتشارد مورفي إلى بيروت ودمشق. واتفق مع حافظ الأسد على «تعيين» مخايل الضاهر رئيساً للبنان، وحددا موعداً لجلسة «الترئيس» في 22 أيلول. رفض مسيحيو المناطق الشرقية. وسبقهم إلى الرفض قائد الجيش يومها ميشال عون، في بيان خطي مكتوب في 18 أيلول، بعد لقائه الشهير في الرابية نفسها، مع مساعد مورفي، دايفيد نيوتن. بعد 72 ساعة طار الجميل في رحلته الثانية عشرة والأخيرة إلى دمشق. وفيما هو مجتمع مع الأسد، أدخلت إلى الرئيس السوري ورقة صغيرة: سميرجعجع مجتمع الآن مع ميشال عون في اليرزة. فانتهت المحاولة والمبادرة والزيارة.
يومها، كان عون وجعجع في قطيعة عمرها أشهر طويلة. وكان كل منهما يعد لمقاربة الاستحقاق الرئاسي على طريقته. غير أن «مصيبة مورفي - الأسد – الجميل» جمعتهما. تحرك جبران تويني (الذي نتذكره غداً مع فرانسوا الحاج) بين الكرنتينا واليرزة، حتى جمع «جنراليهما». لم يكن الاتفاق يومها شاملاً. ولم يكن طبعاً كافياً. بدا أقرب إلى تقاطع على الرفض، بلا قدرة على الفرض. موقف سالب، لا تموضع موجب. اتفاق ساعات. ساعة لإسقاط «تعيين الرئيس». وساعة لإمرار «حكومة الاستقلال وأكثر»، كما وصف جعجع حكومة عون المشكلة دستورياً قبيل منتصف اليوم التالي. وساعة ثالثة للتخلص من أمين الجميل بعد أقل من عشرة أيام. ساعة انقض عليه جعجع في 3 تشرين الأول، وأمن له عون درب المنفى الآمن. بين هلالين، هي عبرة تحضر في الاستحقاق اليوم، عبر موقف الجميل نفسه من الترشيحين!
سيلتقي عون
وجعجع، يجمعهما استحقاق داهم وتنافس مزمن

بعدها انتهت مفاعيل لقاء اليرزة في 21 أيلول. أقر الطائف العربي. ثم تحول وصاية مثلثة سورية سعودية أميركية. قابلتها فوضى ثلاثية: البطريرك صفير تردد. بينما اختار عون المواجهة الجبهية. واختار جعجع المواجهة «الاستيعابية». افترق الثلاثة. ثم تصادموا وتحاربوا واقتتلوا. حتى التقوا - نوعياً - بعد نهاية حروب «الوفاق الوطني»، حين تحولوا ضحايا الطائف الثلاث الوحيدة.
دارت الأيام دورتها. خرج السوري الذي أخرج الثلاثة من الحياة السياسية ومن لبنان. فعاد عون في 7 أيار 2005، وبدأ جعجع يستعد لخروج محتوم من سجنه. في تلك اللحظة، كان لبنان مجدداً على عتبة استحقاقات أساسية. كانت ثمة انتخابات نيابية وشيكة. وكان ثمة استحقاق رئاسي في الأفق. وكان كلام عن سعي إلى تأجيل النيابية وتقديم الرئاسية، ومحاولة إعادة تكوين السلطة السيدة كاملة، بدءاً من الرأس.
في ذلك السياق المشابه للعام 1988، والمطابق للعام 2014، ذهب عون إلى جعجع في زنزانته في 18 أيار 2005. تكرر المشهد نفسه. كلام عن طي صفحة الماضي، وأحلام عن توافق حيال صفحات الحاضر والآتي. ومحاولة تنسيق مع البطريرك في استحقاقي النيابة والرئاسة، بدءاً من قانون الانتخاب الي كان مطروحاً يومها، للتخلص من فرمان غازي كنعان. لكن لحظات قليلة كانت كافية للتأكد من أن الهوة في السياسي والشخصي، أكبر بكثير من الدمعة المحبوسة في عين العائد قبل ايام، ومن الغصة المكبوتة في حنجرة الخارج بعد أيام. اعتذر جعجع عن إمكان التحالف، بحجة أنه سبق والتزم. وألح عون بمحاججة أن التوازن الميثاقي أهم. انتهى اللقاء بجبر خاطر، على طريقة «بيمون الجنرال». اقترح جعجع أن «يخوض كل منا معركته النيابية حيث هو، ثم نلتقي مجدداً بعد النيابة لنكمل النضال»... افترق الثلاثة مجدداً. البطريرك طوب عون زعيماً. فلجأ جعجع إلى تحالف رباعي لا توقيع له فيه. وظل قانون انتخابات زمن الوصاية صالحاً لزمن السيادة، حتى انفجر المشهدان المسيحي واللبناني نيابياً، وطارت الفرصة رئاسياً، وارتاح إميل لحود إلى إكمال ولايته الممددة، ومن بعده الشغور!
اليوم يعود السياق نفسه، واللحظة نفسها. عون وجعجع وبينهما جمهورية ورئاسة وبطريرك. الأول مرشح للرئاسة الأولى. الثاني مرشح لانتكاسة الأول. الثالث مرشح لحرقة دائمة على ضبابية صورة وغياب رؤية. الأول حلفاؤه معه، مرشحاً ورئيساً. لا بل رشحوه ليصير الرئيس. حتى جعلوا قرارهم الرئاسي في يده. هو من يقرر عنهم، وهم يقرون بقراره. الثاني حلفاؤه معه مرشحاً، وضده رئيساً. حتى أنهم أبلغوا البطريرك بالأمر صراحة. وحتى أن بكركي نقلت ذلك إلى المرجعيات الدبلوماسية المعنية صراحة أيضاً: حلفاء جعجع قرارهم الرئاسي ملكهم، حتى تكون الرئاسة ملكهم أيضاً.
في هذا السياق المتكرر ثالثة، سيلتقي عون وجعجع. يجمعهما استحقاق داهم وتنافس مزمن. بعدما جمعهما واقع كونهما الزعيمين الوحيدين اللذين كسرا إلاستابليشمانت المسيحي والماروني. فالاثنان لم يأتيا من البيوتات، ولا من دفاتر الشيكات (الموروثة على الأقل!) ولا من قيود الولادات السياسية بنعمة كنسية. بل جاءا من «جيشين»، اصطدما تقليدياً بالجيش الأسود. وجاءا من شرعية الحرب. شرعية الدولة عند عون، وشرعية «الميليشيا» عند جعجع. سيلتقيان في المرة الثالثة، ليطرح جعجع ثنائية مبسطة: إما أن ننزل إلى المجلس من دون اتفاق مسبق ولينتخب من ينتخب. وإما أن نتفق على مرشح ثالث. وسيرد عون على ثنائية جعجع: جلسة من دون اتفاق، تعني تهريبة رئيس من خريجي مخادع غازي كنعان. أما المرشح الثالث، فآخر تجربة لنا معه أكدت أنه لن يكون الثالث، بل الأخير مسيحياً، والأضعف لبنانياً... بشهادة الياس المر. وسيحاول عون طرح ثنائية مقابلة: إما أن نتنافس نحن الاثنين حصرياً وجدياً، من دون غدر ولا تكرار لخناجر «هل نسأل عن الطائف». وإما أن نتفق على معادلة «تؤيدني رئيساً، وتحدد ما تريده من رئاستي». وفي الحالتين تكون بكركي الضامن والناظم. فديمقراطيتنا التعددية تعني أن نتنافس داخل كل جماعة لتأهيل أوائلها، وأن تتوافق كل الجماعات على شراكة ممثليها. قاعدة لو طبقت سنة 2005 أو 2008، لكان جعجع رئيساً في 25 أيار الماضي، يتسلم الرئاسة من عون نفسه. قاعدة هي اليوم مطروحة لمرة ثالثة، قد لا تكون ثابتة، لكنها قد تكون أخيرة.