بين الزنزانة في شيكاغو وزنزانة الاحتلال في وطن الزيتون، كان قلبه يردد: «لا تسل عن سلامته روحه فوق راحته». يترجل القائد الفلسطيني المتقشف زياد أبو عين شهيداً في قسوة مرحلة سياسية فلسطينية وعربية رسمية، لم تعرفه ولم تقرأ تاريخ الرجل الذي لم يَقل إلا القليل من احتقان في صدره وفي عيون أهل الضفة التي كبلتها قيود التفاوض، حين غاصت حتى الرؤوس في وحل تسويات واتفاقيات أخرجت الزيتون من حساباتها.
وفتشت عن دهاليز التفاوض السري لتوقع «أوسلو» وتحتفي به نافضة ثقل قضية أرهقتها وكبلتها لعقود في خطاب سياسي مترنح يرقب طقس الولايات المتحدة الأميركية ضامنة أمنها وعروشها.

... لم تَلتقط إشارة قلب زياد

ككل أيامه الوطنية، كان الشهيد زياد أبو عين على رأس التظاهرات في وجه الاستيطان وجداره العنصري. وكان يقول في لقاءاته مع أخوة له «إلى متى سيظل التنسيق الأمني مقدساً»، غاضباً لحالة التشظي التي أصابت «أمة العرب» التي تعبت حتى من بيان استنكاري للضم والتهويد والقتل اليومي. أمة ذهبت حتى آخر الشوط في سياسات استئصالية لكل ما هو عروبي وقومي، وأصبح الصراع في برامجها صراعاً فلسطينياً - «إسرائيلياً»، فلم يجد إلا صوته حتى في لحظاته الأخيرة وقلبه يستصرخه أن أعطني هواء يا زياد. وما صمت لأن روحه على كفه، لكن الصمت لف ظلاله في مشهد غرائبي للسلطة في رام الله التي لم تلتقط إشارة قلب الشهيد، وتترك ميدان الضفة للشباب الذين خرجوا غاضبين.
الافتراق السياسي بين
«الرأسين» في غزة والضفة
لم يغب أصلاً

«التهدئة» هذا ما طلبته الأجهزة الأمنية في رام الله من حركة «فتح» - ما يؤكده ناشطون فلسطينيون في الضفة الغربية - وتبرير ذلك أنّ الحالة غير مواتية وعلينا أن نُحرج العالم وفق ما ستطرحه السلطة الفلسطينية في نهاية هذا الشهر من مبادرة تقدم لمجلس الأمن للاعتراف بدولة فلسطينية خلال عامين. «الهجوم» الفلسطيني ليس جديداً، فقبل أكثر من ثلاثة أعوام، هدد السيد أبو مازن بالصيغة ذاتها (صيغة التوجه لمجلس الأمن أو حل السلطة)، ولكنه تراجع عن ذلك لضغوط مورست عليه من المملكة العربية السعودية. وما أشبه الأمس باليوم، فالضغوط ذاتها تُمارس وبصيغة فيها كثير من المقاربة، تشير إلى تأجيل طرح المشروع - المبادرة، والتعاطي مع المبادرة الفرنسية التي نسقتها مع بريطانيا وألمانيا برعاية واشنطن، وأهم بنودها الاعتراف بالدولة اليهودية مع تبادل للأراضي لدولة على حدود 67 خلال 3 سنوات، والذهاب إلى مؤتمر دولي (حق العودة أُسقط من المبادرة التي تنقذ الاحتلال بالدرجة الأولى وتعفي واشنطن من إحراجات كثيرة).

«بروتوس» التنسيق الأمني مجدداً

ليس «بروتوس» هذه المرة بمظهر شخص واحد، بل أكثر من بروتوس يختبئون وراء دخان الحرائق التي تلتهم الضفة الغربية والقدس، وغزة المنتصرة لم تزل تضمد جراحها النازفة في ليل المساعدات التي لم تصل على حد سيف الفراق بين حماس والسلطة. بروتوس «التنسيق الأمني» خائف على انفلات الأوضاع، وروح الشهيد أبو عين قالت المقدس هو الزيتون وأرض الشهداء، و»ترمسعيا» شاهدة على زحف الاستيطان بصخرتها التي اتكأ على ظهرها جسد الشهيد. ليأتي الرد من وزير الحرب الصهيوني موشيه يعلون أنّ التنسيق الأمني مصلحة فلسطينية، وهو «لم يتأرجح ولن يتأرجح مهما كانت الظروف». ويبدو أن روح الشهيد لن تؤجل اجتماعات أمنية مع الاحتلال، ولن تكون بوابة العبور لانتفاضة ستقمعها السلطة التي ترى أن التظاهرات الشعبية هي وحدها الكفيل لاحراج الاحتلال. ولم يكن أبو عين يحمل سلاحاً لكنه قُتل على مرأى من السلطة المقيدة بحركة سيارات رئيسها.
هل نحن في زمن أوصلته الاتفاقيات الأمنية إلى هذا الدرك من الاختباء وراء الحرائق. وكأن «انجازات أوسلو» مقدسة في مشهد الانسحاب الصهيوني منها أصلاً؟! ولم يبق إلا بنداً واحداً هو التنسيق الأمني بعد أن أُفرغت مخيمات الضفة من السلاح وأصبحت جنين مرتعاً للسياح الصهاينة، وبيت لحم يحرس أزقتها رعب السلاح، فكل شيء يقول إن الأخير لن يستخدم إلا للتشريفات وأمامه البساط الأحمر لاستقبال المبعوثين والوزراء ولا جديد إلا في نشرات الأخبار.
لن تشفع كل ديباجات التهديد ووصف جريمة الاحتلال وهمجيته للسلطة أمام شارع فلسطيني ملتهب ومتفلت إلى المواجهة. وهو يرى أرضه تلتهمها نيران الاستيطان والقدس متروكة للجند والمستوطنين، والشهيد تلو الآخر، وأنظمة عربية تهدد بسحب السفراء وتعيدهم بعد تطمينات من حكومة الاستيطان بالتهدئة. وتحت رماد الطاولات اتفاقات سرية بين أنظمة عربية والكيان الصهيوني وواشنطن للحرب على المقاومة ومن يدعمها.
الأكثر غرابة تبدى في أن السلطة في رام الله صعدت من خطابها أخيراً، ووصفت المؤامرات التي تحاك ضدها بأنها لإفشالها وإدخالها في اشتباك مفتوح مع الاحتلال. ما يطرح أسئلة الراهن المشروعة عن دورها ومستقبل مشروعها «السياسي»، وهي التي تتحدث باسم الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وإن أسقطت حق العودة لـ5 مليون لاجئ فلسطيني، لكنها تُنصب نفسها ناطقاً باسمهم، مسقطة الأسباب التي كانت وراء «دخول المنظمة» إلى فلسطين وما طرحته من إقامة دولة فلسطينية، وأن الاشتباك _ أصبح _ يعني لها أن تنقض عليها دولة الاحتلال وتجردها من صلاحياتها المفقودة أصلاً. بعد العدوان على غزة، والمصالحات الشكلية واللقاءات الحميمة والصور التذكارية المختومة بابتسامات برغماتية سقطت في تراشقات لم تهدأ بدا المشهد عارياً. وكان آخر صوره توجيه الاتهامات لحكومة حماس المستقيلة بتفجير بيوت لقادة في فتح، إثر التوافق على إقامة مهرجان في ذكرى استشهاد ياسر عرفات ورفضها إجراء تحقيق يكشف من يقف وراء التفجيرات، كما قالت السلطة. وكأن هناك لحظات الانقضاض حانت لنعود إلى نقطة ما قبل الصفر. وكان هذا متوقعاً وليس مفاجئاً للمتابعين. وانفلت العقال مرة أخرى لندخل في بازارات سياسية تقدم على طبق من تدخلات خليجية للضغط على المقاومة في غزة، واستخدام المال السياسي للاعمار في حرب مفتوحة النوافذ والأبواب، وليس ذلك إلا صورة مصغرة عن المحاصصة التي تطل برأسها في غياب مشروع واضح للطرفين يقرأ معنى ومفهوم حكومة التوافق. فالسلطة استخدمت التوافق لمزيد من الضغط في أوراق يمكن أن تمنحها استثنائية حركة ودينامية للتخويف والترهيب – بحكومة - ترفضها أوروبا وأميركا، لكن تتعاطى مع الأمر الواقع في ضمانات قدمها رئيس السلطة أنه هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة.
أما حماس، فقد ذهبت في منفعية التدرج للخروج من مأزقها المالي والجغرافي بعد أن أَحرقت أوراقها بيدها في توجهها القطري والاخواني. وهذه اليوم تلقى قراءة من كوادرها لإعادة تقويم كل المرحلة السابقة - ما تقدم به أحد قيادتها أحمد يوسف.
الافتراق السياسي بين «الرأسين» في غزة والضفة لم يغب أصلاً، لكنهما تعاملا بدهاء - الآخر يتعاطى مع شريكه للتقاسم الظرفي، ولم يدم ذلك طويلاً لتنافر البرنامجين. سوداوية تخيم بكل قسوة على المشهد الفلسطيني الذي خرج منتصراً في غزة وينتصر بدماء أبنائه في القدس والضفة، وسلطة أصبحت في عراء مواقفها غير قادرة على أن تُصدر موقفاً حازماً حتى من اغتيال كوادر كبيرة كما الشهيد أبو عين. ما الذي ينتظر الحركة السياسية الفلسطينية في مجلس الأمن إن تقدمت بطلبها، وهي العاجزة عن أن تجد قواسم مشتركة مع الفصائل الفلسطينية، وعاجزة عن أن تذهب إلى المؤسسات الدولية لفضح جرائم الاحتلال. ولا ترى في التنسيق الأمني إلا الورقة الأثيرة التي تعطيها مساحة الحركة كي تبقى بأمان من اندلاع انتفاضة ثالثة.
روح الشهيد زياد أبو عين والشهداء في القدس والضفة وغزة، إن لم تحرك السلطة وتترك الساحة للشباب الفلسطيني للمواجهة فمتى سيكون ذلك؟
الأرض التي احتضنت أبو عين لن تهدأ في ثورتها المقبلة، وستُقلب الطاولة على رؤوس من استهانوا بحركة نضال الشعب الفلسطيني.
* كاتب وإعلامي فلسطيني