«وأخيراً كتب إبراهيم عبد المجيد عن القاهرة». قد تكون هذه العبارة التي كتبها على فايسبوك أحد القرّاء المصريين المتابع للروايات الصادرة حديثاً، إشارة واضحة إلى الصورة الجمعية المأخوذة عن ذلك الروائي الذي جعل من مدينة الإسكندرية مكاناً أساسياً في مجمل شغله الروائي. يظهر ذلك بوضوح في ثلاثية «لا أحد ينام في الإسكندرية» (1996)، «طيور العنبر» (2008)، و«الاسكندرية في غيمة» (2013).
وعليه، لن يكون سهلاً عدم الانتباه إلى مسألة خروج إبراهيم عبد المجيد (1947) عن سيرة مدينته الأثيرة والذهاب إلى المكان الذي صار يقيم فيه اليوم منجزاً عمله الروائي الجديد «هنا القاهرة» (الدار المصرية اللبنانية). لكن رغم ذلك الانتقال المكاني الذي فعله صاحب «بيت الياسمين» في جديده، إلا أنّه سيبدو من فاتحة عمله أنّ ذلك الانزياح من الإسكندرية إلى العاصمة لم يكنّ هيّناً عليه. ملامح من روايته السابقة «الإسكندرية في غيمة» تتسرّب كفاتحة لـ «هنا القاهرة». ستظهر ملامح ذلك البطل الشيوعي الذي أنهى دراسته الجامعية وانضم إلى حزب سري ولم يقدر على التأقلم معه. تزامن هذا مع تعرضه لهجر من صديقته التي تقرر ارتداء الحجاب والزواج من ثري دافعة إياه للنزوح باتجاه القاهرة والاشتغال في المجال الثقافي. يحدث هذا في بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي. علماً أنّ عبد المجيد نفسه أنهى دراسته في الإسكندرية وتركها في التوقيت نفسه مقرراً الرحيل إلى العاصمة واشتغل في العمل الثقافي الرسمي (1973). لا يمكن هنا تجاهل نبرة الرثاء التي اجتاحت «الإسكندرية في غيمة» التي استعان الكاتب بما سجّله الشاعر كفافيس قائلاً: «ودّع الإسكندرية،
سيبدو الحشيش وسيلةً لتجاوز
هول الانكسارات المتوالية

الإسكندرية التي تضيع منك إلى الأبد»، وجعلها مفتتحاً لعمله واصفاً سيطرة المال السياسي والتدّين الزائف والعودة بقوة إلى الحجاب كحل مجاني وسهل لمواجهة تلك المتغيّرات التي عصفت بتلك المدينة المتوسطية الكوسموبوليتية وأكلت انفتاحها تجاه الغرباء.
إنها نبرة رثاء ستبقى مواصلة رحلتها باتجاه القاهرة لتعيد تكرار بكائها، لكنّ في اتجاه معاكس. على هذا، سنرى ذلك الشاب (صابر سعيد) الآتي إلى القاهرة للعمل في المجال الثقافي والانضمام بعد ذلك إلى الحزب الشيوعي ولقائه برفيق الرواية (سعيد صابر) الذي يعمل مخرجاً مسرحياً ويوازي الأول في سنوات عمره، وطريقة نظرته إلى الحياة والثقافة واليسار.
في «هنا القاهرة»، سيقوم البناء السردي بدرجة أساسية على هذين الشابين لإعادة تكرار نبرة الرثاء الاسكندرانية لكن على مستوى قاهرة السبعينيات انطلاقاً من انتهاء الطقوس الاحتفالية المُبتهجة بانتصار أكتوبر، وصاحبه «الرئيس المؤمن» الذي نجح بامتياز في تأسيس بداية الانتكاسة الحقيقية في قاعدة المجتمع المصري وتخلخلها، معلنةً صافرة البداية والعودة إلى الوراء مع تجريف ما تبقى من إنجازات «ثورة يوليو». لكن هذا ليس كل شيء. تهبّ «كامب ديفيد» برياحها دافعة إلى اندلاع تظاهرات السبعينيات الشهيرة وحملات استهداف الشيوعيين وفتح الباب على مصراعيه أمام التيّارات الإسلامية الأصولية التي ما زالت مصر تعاني منها إلى اليوم. سيبدو صابر سعيد ورفيقه ــ بحكم تركيبتهما ــ عاجزين عن فعل مقاومة، متخذين من الحشيش وسيلة تسمح بانتقالهما إلى منطقة مرتفعة مجازياً؛ وخلق مسافة للتأمل من جهة، ومغادرة واقع الحال من جهة أخرى. والحال هذه، سيبدو الحشيش وقد اتخذ مصدر قيادة الحكاية برمّتها، وسيلةً لتجاوز هول الانكسارات المتوالية وفتح سقف الكلام والبوح إلى منتهاه مهيئاً الطريق لفض بكارة الكلام المسكوت عنه في السياسة كما الدين والجنس.
هذا المخدّر متوافر بكثرة وبرعاية «الرئيس المؤمن» إياه: «الحشيش في رعاية الرئيس المؤمن. ترى ماذا سيحدث لو مات الرئيس!» يقول سعيد. إلى هذا، كيف سيبدو ممكناً تجاوز مشاهد ضاربة في ألمها مثل رؤية أحد الشعراء وهو يبيع ابنه في المقهى أو متابعة حالة مساومة تفعلها فتاة من أجل الحصول على مهر معقول لها من رجل تعرف مسبقاً بأمر تحويلها إلى سيدة ليل بعد إنجاز زواجه منها؟ لا حل هنا سوى الحشيش، سيّد الحكي والبهجة.
خلال كل هذا السرد المتوالي بسخرية عالية ونكات متتالية لوقائع كثيرة من الأهوال التي امتدت على مساحة 500 صفحة كان ممكناً ضغطها على نحو ما، لا يغفل صاحب «البلدة الأخرى» عن تضمين اللوحة العامّة وصفاً تفصيلياً لأمكنة في القاهرة لم تعد موجودة على أرض الواقع اليوم. كأنّه يقوم باجترارها من ذاكرته الخاصة ليكون القارئ في مواجهة قاهرة أخرى تعني عبد المجيد وحده ويتمنى لو عادت من جديد.