أثرتُ، هنا («الأخبار» 5 كانون الثاني 2015) إشكالية الهوية السورية، وختمت بما أراه، من أن «العروبة لم تعد أيديولوجيا لاحمة في سوريا، بل أصبحت سياقاً للتفتت الوطني»، ولا أعرف كيف التبس القول على رفاق سوريين، معتقدين أن الرأي السابق منسوب إلى الرئيس بشار الأسد، مع أن مطلع الفقرة، الوارد في نهايتها رأيي الشخصيّ هذا، واضحٌ تماماً؛ وهو كالتالي: «يدفع الرئيس باتجاه تطوير حزب البعث، ولكن من دون إعادة النظر في الهوية؛ الهوية عربية». وأنا علّقت على كلام الرئيس، مُحاوراً.
وأنا أحاور الرئيس لأنه رئيس كل السوريين، وهو، بشجاعته وصموده وفكره، احتل الموقع القيادي الأول، لدى الوطنيين في لبنان والأردن وفلسطين، وكذلك، رسخ له حضوراً سياسياً ومعنوياً في العراق؛ فليس كل مؤيدي الرئيس، في الواقع، بعثيين، كذلك فإن ثقلهم الأساسي يمتد من سوريا إلى الهلال الخصيب. وهو ما يطرح أسئلة مستقبلية.
وهذه الأسئلة غير مطروحة على حزب البعث؛ فهو حزب عقائدي يتبع الأيديولوجيا القومية العربية. وهذا حقه المطلق، ونحن نتحالف معه على هذا الأساس، ونأمل أن يجدد نفسه، ويخطو إلى الأمام كتيار أساسي في سوريا. وهناك ما يدعو إلى التفاؤل في هذا المجال؛ ففي خطة الحزب، تغييرات هيكلية أهمها حل القيادة القومية، وتحويل القيادة القطرية إلى مكتب سياسي أو هيئة شبيهة، وتحديث آليات التواصل الداخلي والفعالية النضالية. وهذا تطور مهم جداً، سوف يسمح للحزب بأن يكون أكثر تجاوباً مع الواقع السوري، ويفتح له فرصاً إيجابية لتفعيل علاقاته مع القوى الوطنية والتقدمية في البلدان العربية، من دون التطابق الأيديولوجي أو التعقيدات التنظيمية.
لكن البعث الآن هو تيار من بين تيارات في الكتلة الاجتماعية السياسية التي تؤيد الدولة الوطنية السورية، وتنظر إلى زعامة الأسد؛ فالتيار الوطني السوري الذي يرى هويته في حدود الجمهورية العربية السورية، أصبح تياراً شعبياً رئيسياً. وهذا مفهوم بالنظر إلى ما عانته البلاد على أيدي الأنظمة العربية، وخصوصاً الخليجية، بل على أيدي جماعات عربية من خارج تلك الأنظمة، كالسلفيين والليبراليين والطائفيين. وقد تولدت، في سياق الحرب على سوريا، اتجاهات وطنية سورية، محلية وعلمانية، لم يعد ممكناً تجاهلها.
في المحل الثاني، شهد التيار السوري القومي الاجتماعي، انتعاشاً في أجواء الحرب؛ فالهوية القومية السورية العلمانية ظهرت ــ بعد ما شهده مواطنو الجمهورية من مآسٍ، وبعد ما لاحظه مثقفو بلاد الشام من ترابط كياناتهم وقضاياهم بمركزيّة وقوّة الدولة السورية ــ كضرورة وأفق مفتوح.
ولعلّ في بروز حركة مشرقية متصاعدة منذ 2013، في الهلال الخصيب، دلالة على تشوّف لمستقبل وحدوي، وعلى تشوّق للانعتاق من الكيانية والطائفية والمذهبية؛ فالمشرق، في الواقع، إقليم جيوسياسي وحضاري وتنموي واحد؛ وحين يتوحد في صيغة عصرية، سوف يجبّ احتقانات الأكثريات والأقليات، الناجمة عن تقسيم المشرق؛ ففي الأساس، يتكون المشرق من كتل وازنة متقاربة في العدد والفاعلية، ما يسمح بالاندماج القومي، وتبديد الهواجس والمظلوميات المصطنعة.
ليست هذه الملاحظات موجهةً ضد البعث؛ بالعكس، يمثل هذا الحزب، خصوصاً بعد المشروع الإصلاحي الذي تتبناه قيادته، رافعة للحركة الوطنية السورية. ونحن لا نناقش هوية الحزب؛ فهويته عروبية بالطبع، لكننا نجادل حول هوية الدولة السورية.
الدولة السورية هي الدولة العربية الوحيدة التي لا تزال تتبنى الهوية العربية كهوية وطنية محلية؛ وقد يرى البعض في هذا الخيار ميزة إيجابية وفخراً. وهو كذلك. لكن سنوات الحرب الغاشمة على سوريا، أظهرت أن غياب الهوية الوطنية المحلية لمصلحة الهوية القومية العربية، لم يساعد في منع الانشقاقات الطائفية والإثنية.
وتدل تجربة العراق المؤسفة كيف أن التعويل على هوية قومية عروبية، وطمس الهوية العراقوية، قد أدى إلى تفكك البلد؛ فالعراقوية كان يمكنها أن تستوعب الأكراد، كما كان يمكنها أن تلحم السنة والشيعة في رباط وطني محلي؛ فلا يحتكر السنّةُ، العروبةَ، ولا يفضّلون الروابط مع تركيا والسعودية والخليج على الروابط مع مواطنيهم الشيعة، ولا يشعر هؤلاء باغتراب يدفعهم إلى التطلّع إلى التماهي المذهبي مع إيران.
هل جاء وقت هذا النقاش؟ نعم؛ فالمهمة الاستراتيجية التي تواجه الدولة الوطنية السورية الآن، هي إعادة لحم المجتمع السوري؛ ولعل ذلك غير ممكن إلا باقتراح هوية وطنية سورية ــ مشرقية؛ في الأولى يتوحد السوريون كسوريين، بغض النظر عن الطوائف والإثنيات والأحزاب، وفي الثانية، تضمن الدولة المركزية في بلاد الشام، أي الجمهورية العربية السورية، إطارها القومي الحيوي الذي ظهر، في الحرب، أنه مكشوف.