قيل كلام كثير عن أن مذبحة «شارلي هبدو» في قلب باريس هي 11 أيلول أوروبية. قصة الصراع العنفي بين العالمين الغربي والإسلاموي كانت مقروءة منذ نحو عقدين على الأقل. فقبل أكثر من عشرين عاماً أرهص لها الفكر السياسي الغربي، والأميركي خصوصاً. بعد سقوط المعسكر الشيوعي وتفكك الاتحاد السوفياتي، افتتنت واشنطن بانتصارها. حتى كتب فوكوياما نهاية تاريخه، مستدركاً في صفحاته الأخيرة، تاركاً نافذة مفتوحة على عدم مصادرة المستقبل. فسجل فرضية أن يكون الإسلام واحدة من القوى التي يمكن أن تعيد ثنائية التاريخ الهيغلي، في وجه الغرب الديمقراطي الليبرالي.

بعده كان هانتنغتون أكثر إنذاراً. إذ رسم خطوط صدام الحضارات. وها هي نبوءته لأوكرانيا تتحول حقيقة أكثر إرهاصاً يوماً بعد يوم.
وفي تلك الفترة كان في العالم الشيعي السياسي من يفقه معاني تلك المفاهيم ويدرك مخاطرها. فأطلق خاتمي محاولته الخاصة لمقاربتها واستيعابها، تحت عنوان حوار الحضارات. لكن القوى السياسية المهيمنة على لحظة النشوة الأحادية القطبية في حينه، لم تحفل بتلك المعادلة بين الصدام والحوار. كانت ثملة برائحة الانتصارات وأرقام مغانمها. كان جورج بوش الأب يخوض معركة تجديد ولايته الرئاسية تحت شعار أنه هو من عبأ آخر أنفاس الماركسية في علب من تنك تباع للسياح الغربيين في الساحة الحمراء. وكان الإسلام السياسي المركزي ضائعاً غارقاً بين تبعيتين: تبعية القاهرة المقهورة بعوز خبزها. وتبعية الرياض البطرة بثروات فحشها. لم ينتبه أي من الطرفين إلى خطورة المسار. فسارت الأمور إلى حيثما كانت اتجاهاتها واضحة ومحددة. بعد سلسلة اصطدامات صغيرة متنقلة من أفريقيا إلى اليمن إلى عناوين ثانوية لعظمة الامبراطورية الأميركية، كان الصدام الأكبر صبيحة ذلك النهار النيويوركي: 15 سعودياً وإماراتيان ومصري ولبناني، يصطدمون برموز روما الجديدة: واشنطن وبرجي سطح العالم، فكانت الكارثة.
كان يمكن لأحداث 11 أيلول أن تكون صدمة الوعي ويقظة الوجدان. لكن سلوكيات المعنيين من الطرفين أجهضت الفرصة وأهدرت دماء الضحايا مرتين. منذ اللحظة الأولى قرر تشيني السباحة في دماء القتلى للوصول إلى نفط العراق. أملى على بلاهة بوش الابن خطته لطريقه. وكان الأخير في ذروة هلوساته بين دوغماتية المحافظين الجدد ومكيافيلية معلمه بندر. فأضاف إلى مطامع نائبه النفطية، مفهوم «الصليبية» الجديدة. فصارت الكارثة مضاعفة. انتقل البحث من كيفية نشر الوعي، إلى ضرورة قيام غوانتانامو. ومن تصدير الديمقراطية إلى تحصين التجسس الأميركي على كل حركة في الأرض. فأحس العالم الإسلامي بأن مؤامرة تحاك ضده. بعدما كان العالم الغربي قد اعتبر أنه هو المهدد بخطر الموت الإسلاموي الإرهابي مباشرة. فصارت المواجهة هرماجدعونية. وتحولت بالتالي عقيمة النتيجة. فذهبت مذبحة 11 أيلول سدى. لا تاب الجلاد ولا اعتبر، ولا تعلمت الضحية ولا أفادت.
اليوم يحكى فوق جثامين شهداء الكلمة العارية في باريس، عن 11 أيلول جديدة. وبالتالي تنسج سيناريوهات لفرصة عالمية أخرى. فرصة مقاربة بين الغرب والشرق، على قاعدة الفهم المتبادل، والقبول بالآخر، والأهم استئصال الإرهاب من جذور فكره التكفيري والإلغائي. هي فرصة قد تملك حظوظاً أكبر من اللحظة الأميركية. خصوصاً لأنها فرصة أوروبية. فأوروبا غير أميركا. هي جزء من العالم القديم، لا بل في قلبه. وهي تتفاعل معه أكثر من تلك الجزيرة الأميركية المحصنة. ثم إنها تعرف الشرق تاريخاً وهجرة. أكثر مما تعرف أميركا أوروبا نفسها بالتاريخ والهجرة المقابلين. والأهم أن إسلاموية أوروبا أكثر تهديداً لها من أميركا. هي فرصة إذن لمقاربة حل، ومحاولة معالجة، تقتضي ربما تضافر أربعة عوامل:
أولاً، حل القضية الفلسطينية. من دون الخوض في الأسباب أو الذرائع أو الأرقام أو الحقائق، يظل ثابتاً أن هذه قضية حق. ثم أنها تشكل عامل تسعير وتأزيم في محيطها والعالم الإسلامي والعالم. وبالتالي فحلها العادل شرط أول للإفادة من لحظة 11 أيلول الأوروبية. ثانياً، إعادة الاعتبار إلى نموذج النظام اللبناني. لا في واقعه الراهن، ولا في أشكال فساده وزبائنيته وعثراته وحروبه. بل في كونه نموذج تعايش وإرادة عيش مشترك بين مختلِفين متساوين. إذ يمكن وضع لائحة لا تنتهي بمساوئ النظام اللبناني ومثالبه. لكنه المساحة الوحيدة في العالم حيث يعيش مسيحيون ومسلمون، بصفتهم الهجينة بين مواطنين ومؤمنين، ويعيشون الصفتين معاً في حرية وتعددية. إعادة اعتبار تبدو ضرورية لمحيط متفجر على نار الأصوليات والانقسامات الدينية والمذهبية.
ثالثاً التوجه إلى مصر، لإعادة الاعتبار إلى مرجعية الأزهر في عالم الإسلام السياسي المركزي. من أجل تشجيع الأخير على الاستمرار في نهج ما بعد ثورتي القاهرة الأخيرتين، وعلى تطوير وثائقه الفقهية الأخيرة،وصولاً إلى إسلام سياسي مركزي معاصر، يؤمن بحرية الضمير المطلقة، على طريقة دستور تونس، ويعيشها ويمارسها على مستوى الفرد والجماعة والمجتمع والدولة.
ويبقى العامل الرابع، التوجة نحو الرياض، من أجل تفكيك مستودع الفكر الإلغائي التكفيري هناك، وتجفيف قدراته التمويلية. ليست المسألة استهدافاً لدولة أو إسقاطاً لبلد. بل هو تحرير لمواطنين، ولمحيط ولعالم كامل، من تلك اللوثة الأخطر. عبر استئصال الفكر الذي يعتقد بأن «النساء أكثر قابلية للانحراف الفكري لأنهن ناقصات عقل ودين». والفكر الذي يعنون «سجناء يؤدون «الحج» قبل قطع رقابهم في ساحات القصاص». والفكر الذي يفتي بوجوب «هدم جميع الكنائس في شبه الجزيرة العربية». والفكر الذي يبرئ والد الطفلة لمى، بعد أن اغتصبها وقتلها، لمجرد دفعه «ثمن الدم».
11 أيلول الأوروبية أمام فرصة لإعطاء شهداء الكلمة حقهم، إن ذهبت إلى معالجة العقل، عقل الكيان الاسرائيلي العنصري الغاصب، وعقل النموذج اللبناني التعايشي التعددي، وعقل الأزهر التنويري، وعقل الوهابية النافث للحقد والعنف. فرصة صعبة، لكنها غير مستحيلة.