لنقرّ. بين ضحايانا وضحاياهم فارق شاسع. يتقاطر للحداد على ضحاياهم زعماء العالم، بما فيهم زعماء - أو طغاة - العالم العربي، فيما يقتصر الحداد على ضحايانا على أهل المحلّة. تقام مؤتمرات عالميّة لإدانة الجرائم ضد ضحاياهم، فيما تعقد الدول الغربيّة اجتماعات رسميّة لإدانة ضحايانا بعد موتهم. لضحاياهم أسماء وسير ذاتيّة، فيما ضحايانا مجرّد أرقام في سلسلة طويلة. تُطلق أسماء ضحاياهم على شوارع وجادات، فيما يتعرّض أقارب ضحايانا للاعتقال والتنكيل لأن الضحايا استقبلت رصاصات وقنابل أعدائها.

لبنان كعادته يزايد على الرجل الأبيض في إخلاصه للرجل الأبيض. جريدة «المستقبل» عنونت أنها شارلي، وبالفرنسيّة، لأن مرتادي مقاهي باريس يطالعون الجريدة مطلع كلّ صباح. الرسالة هذه موجّهة طبعاً للسفارة الفرنسيّة في بيروت، ومكتب «وكالة الصحافة الفرنسيّة» أفردت خبراً للموضوع، ومحطة «إل. بي. سي» خصّصت تقريراً عن هذا الموضوع المهم (لكن التيّار الذي يخاطب العالم بلسانيْن مثل، ياسر عرفات والملك حسين، بعث بمسؤوله الإعلامي للحديث بالعربيّة كي يستنكر الرسوم المسيئة). زياد مخّول كاد ان يقتحم باريس ويقود تظاهرة الرئيس الفرنسي. أعلن في «لوريان لوجور» إعادة اقتحام الـ«باستيل»، وبشّر الجمهور بتوحّد المسلمين واليهود في فرنسا، في وقت كانت الصحافة الفرنسيّة نفسها تعترف بعمق الانشطارات حول الهويّة في المجتمع. لكن الرجل الآسيوي ــ الأفريقي (وهذا هو اللبناني في حقيقة تكوينه) في لبنان يظنّ أنه أبيض، ويجهد لإقناع الرجل الأبيض أنه أبيض مثله. لهذا تنادى مثقّفو وكتّاب لبنان للوقوف تزامناً مع وقفة باريس باسم «شارلي»، «ما غيره». لكن مراسل «القدس العربي» كشف ان إحجام قوى سياسيّة مسيحيّة طائفيّة عن المشاركة في وقفة بيروت نتج من حركة نشطة على مواقع التواصل تلفت نظر الجميع إلى ان المجلّة المذكورة حقّرت رموزاً مسيحيّة. لسان حال هؤلاء: تحقير الإسلام هو حريّة تعبير، لكن تحقير المسيحيّة هو ذروة الحقارة. والذين يعارضون تحقير البطريرك الماروني في لبنان يعترفون للرجل الأبيض بحقّه في تحقير رسول الإسلام. أما كتّاب آل سعود فهتفوا لحريّة التعبير (ضد المسلمين) لكنهم طالبوا الدولة الفرنسيّة بالحدّ من حريّة التعبير (للمسلمين فقط).
المحاكم الفرنسيّة
تجرّم إنكار المحرقة النازيّة، لكنها لا تجرّم إنكار المجازر ضد الأرمن

هناك جوانب عدّة للموضوع. أولا، أنتَ شارلي؟ إنّ هذا الإعلان يعني بما لا يقبل الشك ان التضامن مع ضحايا المجزرة (وهم حتماً ضحايا لإرهابيّين لا يتورّعون في سوريا وفي لبنان عن قتل ابناء وبنات جلدتهم ودينهم) يجب أن ينعكس تضامناً مع مجلّة «شارلي إبدو». لكن لو أن مجلّة معادية لليهود تعرّضت لعمليّة اعتداء هل كان تجرّأ مثقّف عربي واحد على إعلان تضامنه مع تلك المجلّة؟ هل كان مثقّف أو كاتب عربي واحد تجرّأ حتى على إعلان تأييده لحريّة التعبير لمعادي لليهوديّة؟ ألم يوقّع هؤلاء على عريضة (منطقيّة، خصوصاً من باب محاربة الدعاية الصهيونيّة التي تستغل أي سقطة معادية لليهود من قبل العرب) لمنع انعقاد مؤتمر كان مفترض أن يحضره معادون لليهود في لبنان قبل سنوات؟ لماذا لم يسكت هؤلاء عن انعقاد المؤتمر إذا كان إيمانهم بحريّة التعبير مطلقة، كما يقولون اليوم في تسويغ وقفة «انا شارلي» (في الحقيقة هم طلبوا من رفيق الحريري - نصير الحريّات - منع المؤتمر بالقوّة، وهكذا كان)؟ لماذا لم يكن الموقف يتمثّل بالتعاطف مع الضحايا في باريس مع إدانة مجلّة تخصّصت في استفزاز مشاعر المسلمين؟ ماذا لو أن كاتباً إسرائيليّاً تعرّض للقتل من قبل عربي، هل سيصيح هؤلاء الكتّاب «أنا إسرائيلي» تضامناً؟ إن التسلسل المنطقي لاعتناق معايير ومفاهيم الغرب سيؤدّي حكماً إلى مطالبة العرب والمسلمين بالتعبير عن تضامنهم مع ضحايا حقيقيّين (كما في باريس) أو مُفترضين (كما في دولة العدوّ الإسرائيلي الغاصب) وإلا فقدوا إنسانيّتهم. الذين مشوا في تظاهرة باريس والذين هتفوا «أنا شارلي» من أي بلد عربي كانوا يقولون - ومن دون أن يدروا - إنهم يعتبرون أن الإساءة والإهانة ضد المسلمين أقلّ درجة في العنصريّة من الإساءة إلى اليهود أو المسيحيّين.
لقد قرأت في وسائل غربيّة عدة مقابلات مع رسّام الكاريكاتور السوداني البارع خالد البيه عن موضوع «شارلي إبدو»، وقال فيها إنه مع حق حريّة التعبير للمجلّة. سألته على «فايسبوك»: هل تقبل بحريّة التعبير لمطبوعة معادية لليهود؟ قال، لا، فقط لمطبوعة معادية لإسرائيل. قلتُ له: لم يكن هذا سؤالي، لكنك أجبت عليه، إذ أنك تعترف بأنك تؤيّد حق التعبير لمطبوعة تنشر إهانات ضد المسلمين لكنك تعارض حق التعبير لمطبوعة تنشر إهانات ضد الشعب اليهودي، أليس كذلك؟ قال: لا، لكن أنا لن أقتل أو أؤيّد قتل من يقوم بذلك. قلتُ: ومن تحدّث عن القتل؟ انت اعترفتَ لتوّك أنك تؤيّد حق إهانة المسلمين لكنك ضد ذلك الحق ضد اليهود. قال: ولماذا أفعل ذلك؟ قلتُ: لقد قلتَ لمحطة «الجزيرة» ووسائل أخرى أنك تؤيّد حريّة التعبير لمجلّة نشرت إهانات ضد المسلمين، لكنك اعترفتَ للتوّ أنك تعارض حق نشر إهانات ضد اليهود. أنتَ، مثل عرب آخرين، تستبطن من دون ان تلاحظ معايير غربيّة تعتبر الإهانات ضد اليهود أفظع بكثير من الإهانات ضد المسلمين. اعترف خالد عندها بوجهة النظر تلك، وقال إنه سيراعيها.
ثانياً، القول إن المجلّة لم تستهدف المسلمين وحدهم. هذا غير صحيح. لقد تخصّصت المجلّة خصوصاً بعد 11 أيلول في إهانة المسلمين كمسلمين، في دينهم وليس في حركاتهم المتطرّفة. لقد نشرت رسوماً (غير مضحكة بتاتاً) لشخص نبي المسلمين محمّد في أوضاع تعرف هي أنها ستهين عموم المسلمين وليس المتطرّفين فيهم، هي قصدت ذلك. وهناك مَن يأتيك برسم لحاخام وآخر لـ«بابا» الفاتيكان ويقول لك، انظر: ها هي تهين أدياناً أخرى. لا مجال للمقارنة بتاتاً. إن إهانة المسلمين باتت روتيناً في رسوم المجلّة واعترف الرسام الذي نجا (لوز) في حديث مع مجلّة «ليبراسيون» أنّ محمد أصبح «شخصيّة» كاريكاتوريّة مألوفة للمجلّة، لم يصبح موسى كذلك. لا يجب ان نغفر للمجلّة لأنها تعرف ماذا تفعل بالضبط. إنها لا تسخر فقط من المسلمين لكنها تزيد من منسوب العنصريّة عبر التسلية بتحقير المسلمين، كما يقول الرفيق رائد شرف. صحيح هي نشرت ذات مرّة سلسلة مصوّرة بعنوان «وصيّة واحدة في اليوم» عن تعاطي الإسرائيليّين مع الفلسطينيّين لكنها خلصت إلى القول إن تلك الأفعال الإسرائيليّة تحيد عن قيم اليهوديّة. لكن في ما يتعلّق الأمر بالإسلام، هي تحمّل الرسول تبعة أي عمل إرهابي يقوم به أي مسلم في أي مكان في العالم في القرن الواحد والعشرين، هذا هو الفارق.
والإلحاد الغربي الشائع (والمستورد منه عندنا) يسخر من الأديان لكنه يخصّص الإسلام بتحقير استثنائي. وعندما كتب فولتير رسالة «يجب على المرء أن يأخذ موقفاً» وسخر فيه من الأديان قيل إنه خصّص اليهود بلؤم لم يرد في سخريته من أديان أخرى، وحُكم عليه تاريخيّاً بأنه كان معاد لليهود. وهناك جانب آخر. لماذا تكون السخرية من المحرقة ممنوعة بالكامل في الغرب (بالقانون والأخلاق والمجتمع - وأنا لست أبداً في وارد السخرية من جريمة بهذا الحجم كما أنني لستُ في وارد السخرية من جريمة بحجم جريمة احتلال فلسطين وأراض عربيّة وما جرّ ذلك من جرائم حرب ومجازر على يد جيش العدوّ الإرهابي)، وتكون السخرية من محمّد مقبولة، وواجب الضحك لها؟ هناك كاتب في جريدة خالد بن سلطان أجاب عن هذا السؤال عبر القول: إن المحرقة «طريّة العهد». بالحرف. وهناك من قال إن المحرقة ليست ديناً، لكن ذكراها باتت مقدّسة عند اليهود ولماذا لا يحقّ للمسلمين والمسلمات ان تكون لهم مقدّسات مرتبطة بصلب عقيدتهم، وهذا ليس كذلك بالنسبة للمحرقة على فظاعتها. أكثر من ذلك، هناك في الغرب من يمنع المسلمين من حق استفظاع ما يصدر ضدّهم من تحقير وإهانات. أنا كنتُ وما أزال - ككاتب - مع حق سلمان رشدي في كتابة ما يريد على أن يُعترف على الأقل بحق المسلمين في استنكار ما يكتب. لكن الكتّاب في الغرب (من اليسار واليمين والوسط) يستفزّون مشاعر المسلمين عن قصد عبر الإفراط في التعبير عن تأييد رشدي وفي إقامة قراءات لما ورد في كتابه. لو أن أحداً منهم تجرّأ على قراءة علنيّة لكتاب معاد للهيوديّة لفقد وظيفته ومركزه الاجتماعي، ومن دون كيف ولماذا!
وعندما كان نعوم تشومسكي منسجماً مع نفسه في مناصرة الحريّة المطلقة للتعبير قامت القيامة ضدّه في الغرب لأن مقالة كتبها عن الموضوع نُشرت، ومن دون علمه، كمقدّمة للكاتب الفرنسي روبرت فوريسون المعادي للهيود والمُنكر للمحرقة. لم يدافع عنه أحد تحت باب حريّة التعبير لا بل أدّى ذلك إلى وصمه هو بمعاداة الساميّة. لكن في ما يتعلّق بالمسلمين، يتنادى الجميع باسم حريّة تعبير زائفة لدعم المطبوعة التي تزهو بتحقيرها للمسلمين. لقد نالت في أسبوع واحد مجلة «شارلي إيبدو» نحو نصف مليون دولار من شركة «غوغل» ومؤسّسة «غارديان». هل مَن يتخيّل إمكان دعم مالي من قبل شركات معروفة لمجلّة تتخصّص في تحقير اليهود؟
ثالثاً، كم نجهل الغرب الذي نلهج بحمده والذي نريد الاحتذاء به في كل شيء. نردّد عن الغرب أبهى ما نظنّه عنه ونقيس الغرب ليس بمقياس الواقع السياسي والاجتماعي بل بقياس كتابات نظريّة لروسو وفولتير (وللمناسبة، ليقلع العرب عن عزو مقولة «إنني أختلف معك لكن أدافع عن حقك في التعبير حتى الموت» إلى فولتير - الذي كان معادياً لليهود - لأنه لم يقلها ولم يكتبها، بل كتبتها إيفلين هال البريطانيّة في سيرتها عن فولتير التي نُشرت في عام 1906). الغرب ليس بانفتاح وحريّة التصور العربي عنه. مَن يعش في الغرب يقلّل من تصديقه مزاعم الغرب عن نفسه.
رابعاً، عولمة دونيّة العنصر العربي والمسلم. إن ما تفعله الثقافة الغربيّة هو عولمة كراهية الإسلام والمسلمين على نطاق عالمي. ينطبق هنا ما قاله المؤرّخ التونسي هشام جعيط في كتابه «أوروبا والإسلام»: كانت أوروبا تضرب الإسلام بعصا في القرون الوسطى لأنه بدا لها متحرّراً ومتفلّتاً ومتساهلاً أخلاقيّاً (بمقياس الدوغما المسيحيّة) فيما أوروبا اليوم تضرب الإسلام بعصا لأنه يبدو لها متزمّتاً ومحافظاً ومتشدّداً (بمقياس «الإنسانيّة العلمانيّة»). وهذا الحكم القاطع ينطلي على العرب والمسلمين،لأنه يُجترّ من قبل الفئة المُثقّفة التي تتوجّه بالنظر إلى الرجل الأبيض. إن تحقير الإسلام في فرنسا هو أكثر من تحقير لدين. هو في الوقت نفسه تحقير للفئات الحقيرة والمحتقرة في المجتمع الفرنسي. الخبير في شؤون الشرق الأوسط، أوليفير روا، كتب في «لو موند» تحت عنوان «الخوف من مجموعة غير موجودة». ويرفض روا فكرة ان هناك «كتلة إسلاميّة» ويقول إن هناك سكّاناً مسلمين، وأنهم خلافاً للمزاعم مندمجون وأن عدد المسلمين الفرنسّين المنضوين في مؤسّسات الدولة أكبر بكثير من عدد أعضاء «القاعدة». لكن لا يحظى دين الإسلام في فرنسا بحظو الاحترام كما تحظى اليهوديّة والمسيحيّة، وتحقير الإسلام بات تسلية نخبويّة ضد الدونيّين.
خامساً، القول إنّ حريّة التعبير هي مطلقة في فرنسا.لا، ليست حريّة التعبير في فرنسا، ومن حق المرء أن يسأل لماذا يُجرّم إنكار المحرقة ولا يجرّم إنكار النكبة أو تحقير الإسلام ونبيّه. إن مجلّة «شارلي إيبدو» خلفت مجلّة «هاري- كاري» التي توقفّت عن الصدور بعد ان سخرت من ديغول وموته. أي ان السخرية من محمّد مضحكة جداً لكن إيّاك ان تسخر من ديغول أو من اليهود. وقد وصف جاك شيراك نفسه نشر صور محمد الدنماركيّة الساخرة في المجلّة عام 2006 بأنها «استفزاز مقصود». وهناك من ينصح المسلمين باللجوء إلى المحاكم، لكنهم (بشخص الجامع الكبير في باريس واتحاد المنظمّات الإسلاميّة) قاضوا المجلّة لكن المحاكم الفرنسيّة حكمت لمصلحة «شاري إيبدو». وفي عام 2005، حكمت محكمة فرنسيّة لمصلحة الكنيسة الفرنسيّة التي اعترضت على إعلان لشركة ملبوسات على صورة «العشاء الأخير» وظهر فيه المسيح بشخص امرأة. جاء في القرار إن الإعلان «عمل غير مُبرَّر وعدواني ومهين لمعتقدات الناس العميقة». لم تحكم محكمة فرنسيّة مرّة لمصلحة معتقدات المسلمين. والمحاكم الفرنسيّة تجرّم إنكار المحرقة النازيّة لكنها لا تجرّم إنكار المجازر ضد الأرمن. وفي العام الماضي، كما ذكّرنا الحقوقي الأميركي جوناثان ترلي، منع وزير الداخليّة الفرنسي حفلات للكوميدي «ديودوني» لأنه - بحسب الوزير - «لم يعد كوميديّاً» ولأنه «عنصري ومعاد لليهود». هو ليس شارلي. وفي عام 2013، قاضى اتحاد الطلاّب اليهود «تويتر» بسبب تغريدات معادية للسامية، وفازوا.
والعدوّ الإسرائيلي يلتزم قانوناً يمنع المسّ بـ«العواطف الدينيّة» والنيل من رموز الأديان. لكن صحيفة «هآرتس» نشرت (في النسخة العبريّة) صوراً من مجلّة «شارلي إيبدو». يبدو أنّ الرقيب الإسرائيلي الصارم سمح بتحقير الأديان فقط لأن الدين المُستهدف هو الإسلام. لو ان المجلّة استهدفت الدين اليهودي والمحرقة لما سُمح لها بالنشر.
سادساً، رفض البتّ في الأسباب والُمسبّبات. تفرض الحكومات الغربيّة رقابة صارمة ضد حريّة التعبير واامناقشة عند كل حادثة تفجير إرهابيّة لكنها تفعل ذلك في ما هي تتشدّق بحريّات تعبير يغدقونها على شعوبهم. بعد 11 أيلول، كانت الحكومة الأميركيّة والإعلام يساويان كل محاولة لشرح المُسبّبات السياسيّة لظاهرة التطرّف بالإرهاب نفسه. أذكر مرّة على شاشة شبكة «إن. بي. سي» أنني في خريف 2001 كنتُ أتحدّث عن مقتل مدنيّين ومدنيّات جرّاء القصف الأميركي في أفغانستان فقاطعني المذيع مباشرة على الهواء قائلاً: أنت تتحدّث مثل بن لادن. وعندما رددتُ عليه بقسوة، قُطع عنّي البثّ. رفضت أميركا البتّ في مسألة تأثير استمرار المعاناة الفلسطينيّة على ظاهرة التطرّف، كما أنها رفضت البحث في سياساتها التي هي تتسّبب مباشرة (كما فعلت من خلال التسليح والتمويل من قبلها ومن قبل طغاتها الخليجيّين) في إطلاق الحركات الإرهابيّة. واليوم، يُقال لنا لا يمكن ولا يجوز البحث في تاريخ فرنسا الاستعماري وحاضرها القمعي وحروبها في مالي وفي سوريا وفي ليبيا، لأن الموقف لا يتحمّل إلا الحزن والأسى على ضحايا الرجل الأبيض. الخلاصة بحسب هؤلاء هي: اخرس، وكُن شارلي. هل هذا كل ما يحق لنا فعله؟ لا، يجب أن نصرّ على ان الإرهابيّين هم من نتاجهم هم، وليسوا من من نتاجنا نحن. والإرهابيّان ولدا ونشآ في فرنسا والإشارة إليهما كجزائريّين «تماثل الإشارة إلى أوباما على أنه من أصول كينيّة في كل مرّة تذكر فيها جرائمه، أو أن نتنياهو من أصول بولونيّة في كل مرّة تذكر فيها جرائمه»، كما علَّق الرفيق جوزيف مسعد.
سابعاً، هم لا يريدون إسلاماً معتدلاً، هم يريدون تشكيل إسلام يليق بهم ويخدم مصالحهم. لنأخذ حالة مهنّد خورشيد (وهو فلسطيني وُلد في لبنان ونشأ في السعوديّة). كان حضرته يدرس علم الاجتماع في جامعة فيينا وأعدّ استبياناً لمُدرّسي الدين الإسلامي في ألمانيا أعلن على إثره أنهم كلّهم معادون للديمقراطيّة. وروّج لنفسه كالحلّ. ماذا حدث بعدها؟ عيّنته جامعة مونستر في ألمانيا أستاذاً (والحصول على كرسي تعليمي لغير الألمان من المستحيلات) وأنشأت له الحكومة الألمانيّة مركزاً للفقه الإسلامي. واعترض كثيرون بما فيهم المؤسّسات الإسلاميّة على هذا الإجراء، وذكّرت أنه غير مؤهّل، فما كان منه إلى أن أجاب بأنه حصل على شهادة عالية في الفقه الإسلامي من «جامعة الأوزاعي» في لبنان. وصدر له كتاب «الإسلام رحمة» ويتم الترويج له بأكثر من لغة، وخورشيد يظهر باستمرار على وسائل الإعلام الألمانيّة ليحذّر من خطر التطرّف الإسلامي (لا الإسرائيلي الصهيوني). هذا ما تريد الدول الغربيّة ان تفعله. هي تريد ان تعيد صياغة وإنتاج الدين الإسلامي، وان تحذف من القرآن ما يمكن ان يسيء إلى عمليّة الترحيب الإسلامي والعربي بدولة الكيان الغاصب وبحثّ أميركي (وتنسيق سعودي). تعلن الدولة الفرنسيّة الحرب على «الإسلام المتطرّف» لكنها لا تعلن حرباً مماثلة على «اليهوديّة المتطرّفة» أو «المسيحيّة المتطرّفة» أو «البوذيّة المتطرّفة».
ثامناً، ينجرّ عرب ومسلمو المهاجر إلى لعبة أدرجها الصهاينة وأصبحت سارية عالميّاً. على كل عربي أن يدين وأن يستنكر وأن ينبذ كل عمل إرهابي أو مجرم يقوم به أي عربي وأي مسلم في أي مكان في العالم. إن الرد على موقفي برفض دعم المجلّة لا يمكن ان يجرّني إلى اللعبة الغوغائيّة حول ما إذا كنت بناء على ما سبق أؤيّد قتل الرسامين. يجب افتراض ليس ذنب كل عربي، وإنما براءة كل عربي من هذه الأعمال، لكن ما علاقتي في الأمر كي أثبت إنسانيّتي من خلال تلاوة فعل الإدانة وانا احاجج في موضوع سياسي ونظري؟ إن إدانة العرب والمسلمين لأفعال إرهابيّة من هذا النوع يجب ان تكون معروفة مسبقاً ومُفترضة، لا أن تصبح وسيلة للاستدراج من أجل وضع المسلم والعربي في موقع الضعيف في المناظرة، وفي المجتمع والدولة. لكن الإدانة الغربيّة والعربيّة المتكرّرة تقع في باب استبطان اكيد لمعايير تجعل من حياة الغربيّين والإسرائيليّين أثمن بكثير من حياتنا. لقد قتل لنا العدوّ، وحاول قتل، عدد كبير من خيرة كتّابنا وفنّانينا وشعرائنا، من باسل الكبيسي إلى أنيس صايغ إلى ماجد أبو شرار إلى كمال ناصر إلى العظيم غسّان كنفاني، هذا من دون ذكر علماء لنا قتلهم العدوّ ونسينا نحن أسماءهم.
تاسعاً، حقيقة المجلّة. لا، ليست المجلّة يساريّة كما يُشاع. هي كانت يساريّة وتحوّلت إلى مجلّة رجعيّة متعصّبة ضد كل ما هو مسلم، ودرجت على السخرية من النساء المسلمات باسم «نسويّة استعماريّة». وماذا عن السخرية من المثليّين والسوقيّة الجنسيّة التي تطبع رسوم المجلّة؟ ليست هذه دعوة لإغلاق المجلّة لكن ان يُدافع عنها من قبل يساريّين وليبراليّين عرب يتناقض مع قيم اليساريّة والليبراليّة (خارج نسقها الوهّابي).
لكن في المقابل، على المسلمين والمسلمات تخفيف الوطء وعدم الظهور دائماً بمظهر العابس الواجم في كل شيء. وهذا يؤثّر حكماًفي صورة الإسلام في الغرب والشرق على حدّ سواء. أذكر مرّة أنني سألت حسن نصرالله: أنتَ خلافاً لباقي رجال الدين في بلادنا تبتسم. لماذا لا يبتسم رجل الدين المسلم، سألته؟ كما ان العرب أتقنوا لقرون فن السخرية والضحك (راجع كتاب «الضاحكون» لمحمد قره علي) والهجاء. ومع أن رسم الكاريكاتور حديث العهد في بلادنا (أي مطلع القرن العشرين) فقد برع فيه كثيرون في مصر خصوصاً في لبنان وفلسطين وسورية وباقي البلدان العربيّة). لا يتناقض الإسلام، أو لا يجب ان ينتاقض، مع الهزل والضحك وحب الحياة والمرح لأن تلك الصفات تلازمت مع التاريخ الإسلامي نفسه. كان الخلفاء والعامّة يستمتعون بالموسيقى ويشاهدون الرقص ثم يذهبون إلى الجامع للتعبّد. إن التزمّت الأخلاقي الذي يطبع الإسلام الحديث هو نتاج لمسيحيّة الفيكتوريّة الزهديّة التي استوردها الوهّابيون وطبعوا نسقهم المتطرّف من الإسلام بها. كما لا يمكن للمسلمين أو بعضهم، الاستمرار في السخرية من اليهوديّة أو تحقيرها ثم أن يعترضوا على إهانات ضد دينهم. ليس لهم في صدقيّة في هذا المجال.
إن نقد الدين جزء من نقد المؤسّسات الحاكمة والقائمة. واليسار الحقيقي لا يتورّع عن أي نقد مهما تناول من المقدّسات. لكن نقد دين واحد مقابل احترام أديان أخرى يدخل نطاق الكراهية والتحريض الديني. لا، ليس الإسلام وحده يحتوي على نصوص غير ديمقراطيّة أو متسامحة، ولا يحتكر المسلمون أعمال عنف باسم الدين. قام رهبان البوذيّة في بورما بالتحريض وقيادة مجازر جماعيّة، والميليشيات المسيحيّة في جمهوريّة أفريقيا الوسطى لا تقصّر. لكن هناك حالة عداء غربي منتشر ضد الإسلام، وهناك بعض العرب والمسلمين ممن تخصّص (إراديّاً أو غباءً) في استبطان عداء الذات.
* كاتب عربي
(موقعه على الإنترنت:angryarab.blogspot.com)