في طرابلس، اخترع رجال السياسة في زمن ما بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، «منظومةً أمنية»، عمادها مسلّحو الشوارع. ثم وضعوا لهذه المنظومة "والياً" رسمياً اسمه العميد عامر الحسن، رئيس فرع استخبارات الجيش في الشمال. كان الأخير يدير بالأمن "التفليسة السياسية" التي تسببت بإراقة أرواح طرابلسيين كثر، وبتدمير ممتلكاتهم، وتهشيم أسلوب حياتهم طوال السنوات التسع الماضية، لكن الحسن حال دون سيطرة تيار المستقبل على القرار الأمني في عاصمة الشمال، وهو ما لم يستسغه "صديقه" الرئيس سعد الحريري.
ولتمرير "الخطة الامنية" الأخيرة في الشمال، وتغطية الجيش في حربه على جماعتي شادي المولوي وخالد حبلص، اشترط رئيس تيار المستقبل على قائد الجيش العماد جان قهوجي ضرورة إقصاء الحسن من منصبه، وتعيين ضابط حريريّ الهوى مكانه. وبحسب المعلومات المتداولة في الأوساط السياسية والامنية، فإن قرار إبعاد الحسن من الشمال قد اتخذ، لكنه لم يصدر رسمياً بعد. وسيعيَّن ملحقاً عسكرياً في دولة اوروبية (يُرجّح انها بريطانيا). اما "تخريجة" هذا القرار، فستكون تحت عنوان "أن الحسن مهدّد، وان آخر عبوة ضُبطت في طرابلس كانت ستستهدفه".
كان اسم عامر الحسن كفيلاً، طوال السنوات الست الماضية ببثّ الرعب في قلوب معظم المطلوبين في الشمال. يصفه كُثر بأنّه «المايسترو»، ويتّهمونه بأنه تحكّم في كل صغيرة وكبيرة. في تلك المنطقة التي رزحت فترة طويلة تحت عبء إرهاب سُمِّن وغُضّ الطرف عنه حتى حين، لن يجرؤ أحد على الجهر بسوء ضده، لكن في الخفاء يتهامس كثيرون عن دورٍ أدّاه رئيس فرع استخبارات الشمال في معظم الأحداث الأمنية التي شهدتها المدينة. المواقف تتباين حيال ابن بلدة بتوراتيج في الكورة، إذ تقابل الصف المنتقد لأداء الضابط الذي سيُنقل من مركزه قريباً، مواقف ترى في المنظومة الأمنية التي أدارها الحسن صمام أمان حمى السلم الأهلي بمعجزة لم تكن ممكنة لولا أسلوبه. وفي السياسة كما في الأمن، ارتبط الضابط الصاعد بعلاقة جيدة مع زعيم تيار المستقبل سعد الحريري، لكنّه عادى نواب كتلته. من النائب أحمد فتفت إلى زميله خالد الضاهر وبينهما كُثر. تقرّب من الرئيس نجيب ميقاتي وجابه اللواء أشرف ريفي بشراسة. حربٌ ضروس شنّها أحدهما ضد الآخر منذ خروج الأخير من الوظيفة الرسمية. كان ريفي المنافس اللدود لضابط الاستخبارات، ولا سيما أن المجالس الامنية والسياسية تجزم بأن الحسن كان يطمح لتولّي منصب النائب الثاني لمدير الاستخبارات، تمهيداً لخلافة ريفي في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، علماً أن الحسن كان ينفي ذلك بشدّة أمام سائليه.
جمع رئيس فرع الاستخبارات في الشمال الأضداد. أدخل تحت عباءته السلفيين ووفّر لهم الغطاء مع محافظته على "علاقة ما" مع «عدوّهم الأوّل» المتمثّل في النظام السوري. في الشمال، كما في كل مكان آخر في لبنان، يرتبط الخارجون على القانون بعلاقة مميّزة مع القيّمين على تطبيقه. يروى الكثير عن توزيعه بطاقات رخص سلاح و"حماية موكب" للمطلوبين. يؤكد هذه المعلومة أمنيون وسياسيون ومقربون من الحسن، لافتين إلى أن رجال السياسة أرادوا احتكار العلاقة بالمطلوبين، ومصادرة قرار السلم والحرب في طرابلس، فما كان من الحسن إلا أن قرر اللعب في المضمار نفسه. فبدا كمن يقول لزعماء طرابلس: "تريدون تغطية حاملي السلاح وحمايتهم وتحريكهم وفق مشيئتكم؟ فليكن، لكنني لن أتفرج عليكم، بل سأكون أنا سيد الشارع". وفي كل مرّة، كان السياسيون يُشعلون فيها المدينة حتى تكاد تحترق. وعندها، كان يَخرج الضابط كالمنقذ، ويُخرِج المطلوبين للعدالة وأهل السياسة من المأزق الذي وضعوا المدينة فيه، كأنّ شيئاً لم يكن. هكذا كان يُطبخ الأمن في هذه «الإمارة» حتى ما قبل الخطة الأمنية الأخيرة. وللعلم، فإن الحسن أدار هذه «المنظومة الأمنية»، بعلم رؤسائه، وبذريعة الإمساك بأمن طرابلس والشمال.
لا يُشبه الحسن غيره من الضبّاط. «الضابط المدلّل» لدى قائد الجيش العماد جان قهوجي، يحقّ له ما لا يحق لغيره. ولا رأي فوق رأيه ولو كان أعلى منه رتبة. يتناقل ضبّاط أخباراً عن عشرات التقارير التي كانت ترد إلى وزارة الدفاع تطاول الحسن: معلومات عن تراخٍ حيث يجب التشدد، وعن تشددٍ حيث يجب اللين ورخص سلاح توزّع بالمئات وغيرها، لكن كل هذه التقارير كانت تُرمى في الأدراج، فقد كان القائد يرفض إعارة أُذنه لأي كلام يطاول الحسن.
نجح العميد عامر الحسن وأخفق. أمسك بزمام الأمن من كافة أطرافه، لكن التكلفة كانت باهظة على المدينة. المدافعون عنه يؤكدون أنه تمكّن من العبور بأمن طرابلس إلى ما رست عليه الامور، "بأقل الخسائر الممكنة"، في ظل اوضاع إقليمية ومحلية متفجرة، وفي ظل قرار سياسيي المدينة استخدام أرواح اهلها في صراعاتهم. وعندما اتفقوا على وقف نزيف الدم في عاصمة الشمال، اتفقوا أيضاً على ضرورة تعيين "والٍ" جديد، يدير لهم لعبة الأمن في زمن التسويات.