كثيرون منّا يعرفون الفونوغراف من خلال أفلام الأبيض والأسود، وقلّة خبرته عن قرب أو تعرف أحداً يمتلك هذا الجهاز الذي تصدح من إبرته السحرية أعذب الأصوات، كـموسيقى بيتهوفن وسيمفونياته الخالدة أو أصوات الغناء الكلاسيكي العذب، ولكن في إحدى زوايا ساحة التل في مدينة طرابلس، وأنت تتمشى ضجراً من أصوات السيارات وعوادمها، يصادفك محل قديم، مظلم. واجهته مغبرّة، وتتراصّ فيه قطع الخردة القديمة فوق بعضها بعضا على الرفوف.
تقترب منه بقليل من الحشرية فتدرك أنك أمام مكان يقاوم الحاضر ويأخذك الى أزمنة مضت، حيث كان الفونوغراف المصدر الأول للمعلومات، ونافذة آبائنا على العالم. في الداخل تصدح أغاني «أديت بياف» من الأسطوانة التي يشغّلها جورج كارتانيان.
كان ابن الخامسة والتسعين عاماً، جالساً في محله، الذي يمكن وصفه بالذاكرة الحية في هذا المجال. في البداية يرفض الحديث فـ«أنا مش من جماعة حب الظهور وما بحب كتير الكلام»، لكن الرجل، الذي ولد بالتزامن مع إعلان دولة لبنان الكبير، يعود فيوافق على الحديث عن مهنته التي «تتطلب الكثير من الهدوء والتركيز من أجل إنجاز المهمات بدقة فهو بمثابة عمل جراحي».
يتحدث كارتانيان عن «الفونوغراف» الذي كان في وقت من الأوقات «المصدر الأول للتسلية لدى العائلة وبوابتهم الى العالم». يقول إنه استقبل بداية بالدهشة والتساؤل عن كيفية خروج صوت بشري من جراء وضع الإبرة على القرص – الديسك، ولكنه سرعان ما انتشر بين الناس، ومن مختلف الطبقات «كنا عائلة متواضعة ومع ذلك كان عندنا فونوغراف، لم يكن هذا الجهاز حكراً على الأغنياء». هذا الحديث يقود إلى بدايات انتشار الراديو، التي شهدها محدّثنا، وتزامنت مع تطوّرات الحرب العالمية الثانية، وتقدم الحلفاء نحو لبنان والعالم العربي. ولا يفوته أن يتذكر ظهور هيئة الإذاعة البريطانية في هذه المرحلة، بالإضافة إلى إذاعات غربية أخرى ولاحقاً صوت العرب «التي مهدت لثورة الضباط الأحرار في مصر» بحسب رأيه.
الفونوغراف كان في وقت من الأوقات المصدر الأول للتسلية لدى العائلة وبوابتهم الى العالم


تراوح الأسعار الملصقة على
الأجهزة بين 250 والألف دولار

يردد كارتانيان مقولة أن لكل عصر آلاته وأدواته الخاصة، مبدياً اقتناعه بأن العالم يتطور ومن الطبيعي حصول التغيير في كل المجالات «الفونوغراف بلغ القمة في تلك الفترة، والأمر نفسه يتكرر اليوم مع الانترنت الذي غزا العالم، ولا تنسى اليوم كتير العلم تتطور». وبمعرفة الخبير يؤكد أن «كل اختراع يمهد لاختراع أحدث»، فيشير الى أنه «مع الفونوغراف كانت الماكينة بسيطة جداً من الناحية الميكانيكية، وتعتمد على الدوران والمغنطيس. الآلة لم تكن معقدة. ومن ثم جاء الراديو أكثر تعقيداً، أما اليوم فبتنا أمام آلات تعمل على الكمبيوتر وبحاجة الى متخصصين لإصلاحها فكل شيء بات يعمل على الكمبيوتر».
كارتانيان، صاحب الذاكرة الممتازة، يحفظ الكثير من المعلومات عن اختراع الفونوغراف على يد أديسون وعن كيفية الوصول إليه، وعن الدور الذي أدّاه التلغراف في تسهيل اكتشافه، متحدثاً عن اختراع مطابق له في أوروبا على الحافة الأخرى للأطلسي، لكن كلّ هذه المعلومات لم تسعفه على المحافظة على مهنته كما كانت في عزّها. فيشير إلى أن بداية التراجع كانت مع إغلاق محله الخاص في طرابلس منذ عشرين سنة تقريباً «لأن أكثرية الناس استغنوا عن هذه الآلات، ومن احتفظ بها لم يعد يستعملها ولكنه جعلها قطعة ديكور معطلة في إحدى زوايا بيته».
وعن السبب الذي يدفعه لمواصلة إصلاح الفونوغراف، لا يتردد بالقول أن هذه الحرفة مصدر متعة له ولا يبحث عن أي ربح أو مكسب منها «الحمد لله أنا وأولادي عندنا مصدر دخل آخر، لكنني أحب الفونوغراف وصوته، وأحنّ إلى زمن أسمهان وأم كلثوم والشحرورة صباح». ويذكر أنه كان يمتلك كمية كبيرة من الاسطوانات الكلاسيكية وبعدة لغات من بينها العربية والفرنسية، ولكنه باعها منذ فترة لأحد الزبائن المهتمين بالحفاظ على التراث الفني.
هذه المهنة التي ما زال يزاولها كارتانيان على سبيل الهواية جذبت آخرين لمزاولتها لكسب الرزق. يشير عزام الزيني أحد المهتمين بترميم أجهزة الفونوغراف والراديو القديم ومن ثم بيعها الى أنه يشتري هذه الأجهزة من بعض الناس «الذين لا يعرفون قيمتها»، ويعرضونها للبيع أو يتخلّون عنها ويرمونها. فيُصلحها هو ويعيدها إلى الحالة التي كانت عليها ومن ثم يبيعها لهواة جمع القطع التراثية القديمة، وتراوح الأسعار الملصقة على تلك الأجهزة بين 250 والألف دولار.
وإذا ما كانت تعود للعمل، فلا يتردد الزيني بإحضار أسطوانة قديمة لتجربتها أمامنا وتشغيل الراديو للاستماع إلى الأثير. وعن كيفية ترويج هذه القطع يقول الزيني إن البعض يقصده بناء على نصائح الزبائن، كما بدأ يعتمد على الشبكة العنكبوتية وصفحات المزاد، أو صفحته الشخصية التي أنشأها وحققت له الانتشار.