أنجز، نائب الرئيس السوري وزير الخارجية الأسبق، فاروق الشرع، كتابة مذكراته السياسية التي تنتهي برحيل الرئيس حافظ الأسد، العام 2000، في مطلع العام 2011. هي، إذاً، لم تخضع لمؤثرات الربيع الأسود في سوريا؛ غير أن رمزاً وطنياً بحجم الشرع، ما كان ليسمح بنشر مذكراته في مركز دراسات تابع لمشيخة قطر التي مارست، خلال السنوات الأربع الماضية، أسوأ الأدوار، السياسية والإعلامية والإرهابية، في التآمر على الجمهورية العربية السورية.
كذلك، ما كان ليفوت الشرع، شطب فقرة ودّية تتناول «الصديق عزمي بشارة» (ص 417)؛ فالرجل الذي أظهر كل ذلك الحقد على سوريا، لا يستحق، بعد، صداقة وطني سوري. لكن الأهم، أن مراجعة لمّاحة للنص، في ضوء ما كشفته الحرب على سوريا، منذ 2011 وحتى الآن، كانت ستمنح الشرع فرصة لإعادة توصيف سياق روايته للأحداث في ضوء أكثر سطوعاً. فمن الجليّ أن جذور تلك الحرب تمتد إلى عقود «الرواية المفقودة» حول السياسة الخارجية السورية، التي كان الشرع أحد أبطالها، وكان الرئيس حافظ الأسد، مؤلفها الكبير.
يروي الشرع، في مذكراته المكتوبة بمنهجية مهنية وأسلوب موجز ورشيق، أحداث مرحلتين متتابعتين من الانهيارات المتلاحقة في موازين القوى بين سوريا وأعدائها. تبدأ المرحلة الأولى مع «زلزال 1979» المتمثل في معاهدة السلام المصرية ــــ الإسرائيلية، وتنتهي بـ «الانهيار الكبير» في العام 1991، المتمثل في حرب الخليج الثانية، وتداعياتها؛ بينما تمتدّ المرحلة الثانية من انطلاق «عملية السلام»، في العام 1991، إلى موت «شجرة السنديانة (التي) تظلّ جذورها حيّةً في أعماق الأرض»، كما وصفَ الشرع، الرئيس حافظ الأسد في رحيله. وهو وصفٌ دقيقٌ، لا بالمعنى الشخصي والتاريخي فقط، وإنما بالمعنى الاستراتيجي؛ فسوريا دفعت، وستدفع ثمناً غالياً جداً، جراء تمسكها بتلك الجذور التي هي، أيضاً، منطلقها إلى المستقبل.
بالمحصلة؛ خاض الأسد، غمار معارك صعبة، على العديد من الجبهات، وأحياناً... في الوقت نفسه؛ بدأ طامحاً بالتحرير، لكن الزمان حاربه. وعلى رغم أهوال المواجهات، «مات... ولم يوقّع». وهذه حقيقة لا تفسرها مصادفة موت قائد لا يستطيع أحدٌ، بعده، أن يوقّع... وإنما هي خلاصة نهج استراتيجي، استنهض قوى سوريا الكامنة، ووظّفها في عملية بناء داخلي طموحة، استمرت، دائماً، في ظل أقسى الأزمات، واستبصر ميزات المكان من أجل تعزيز المكانة، وتحويل الجمهورية العربية السورية، إلى قوة إقليمية أساسية، لعبت وتلعب دوراً قومياً فاعلاً، وسط النيران العدوة و»الصديقة».
السيرة السياسية للأسد، كما يرويها الشرع، هي سيرة الجدل بين الاستراتيجية والتكتيك، في ظل الشروط الموضوعية الملموسة والمتغيّرة. هناك مَن يركّزون على البعد الأول (الاستراتيجي) من صفّ المؤيدين، بينما يركّز الناقدون على البعد الثاني (التكتيكي)، لكن عبقرية الأسد، لا تتضح إلا بقراءة جدلية للبعدين. وهذا هو الاستنتاج الرئيسي الذي يخرج به القارئ المنصف لرواية الشرع؛ فالسردية القائمة، هنا، على استبعاد الخطاب الأيديولوجي والدعائي، تقرن المعطيات بالمواقف على نحو ينطوي على منطق داخلي محكم، تجعل القارئ يقرّ، بغض النظر عن عواطفه، بصحة القرارات والسياسات المتبعة، في سياق ظروفها ومتطلباتها الواقعية، كما في سياق ارتباطها بالمنحى الاستراتيجي العام الذي لم يتزحزح الأسد عنه أبداً، مجازفاً حتى حدود الوقوف على الهاوية، وواقعياً حتى حدود خسارة الشعبية.
الاستراتيجية التي حكمت سياسات الأسد، المبنية على ثوابت السيادة والاستقلال والدور، ليست خياراً أيديولوجياً لقائد، وإنما هي استلهام للجغرافيا السياسية ــــ التاريخية للجمهورية التي يقودها. وهذا هو الدافع الامبريالي الصهيوني الرجعي للخطط المستمرة من أجل تقسيمها جهوياً أو دينياً ومذهبياً.
سوريا الصغرى، ببنيتها التكوينية، تشكّل، موضوعياً، دينامو الصراع من أجل سوريا الكبرى والعراق. لذلك، لا تستطيع دمشق، الاعتراف بإسرائيل القائمة على امتدادها الجنوبي الغربي، ولا بالوطن البديل على امتدادها الجنوبي الشرقي، ولا بانسلاخ لبنان، كما لا تستطيع أن تنظر إلى العراق إلا كعمق دفاعي وتنموي. وأخيراً، هناك التناقض الجيوسياسي مع تركيا الأطلسية، التي تغتصب أراضي سورية، وتشكل تهديداً دائماً في سياق الصراع بين نموذج عثماني مذهبي رجعي ونموذج عربي تقدمي يقوم على التعددية الثقافية.
داخلياً، اتبع الأسد، بالتزامن الضروري، استراتيجية اجتماعية ــــ وطنية، تقوم على ثوابت التنمية الوطنية المستقلة، وبناء القدرات الاقتصادية والعسكرية، والانحياز، بالدرجة الأولى، إلى الفلاحين، ومن ثم إلى سائر الكادحين والفئات الوسطى، وتكريس الأيديولوجيا العروبية العلمانية. فهل أدى التداخل الميداني بين الاستراتيجيتين أعلاه، في السياسة العملية، ومتطلبات الصراعات والتحالفات، إلى استبداد (بعضه ضروري وبعضه مفرط) وإلى تسامح سياسي إزاء الفساد؟ سؤال جوهري، يحتاج إلى مقاربة عيانية.
اكتشف الوطنيون السوريون أن الانزياح، ولو جزئياً، عن ثوابت الأسد، (كالتوهّم بإمكانية بناء علاقة استراتيجية مع تركيا، أو التسامح إزاء تحجيم العلمانية، أو التراجع عن دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي، وخصوصاً لجهة الانحياز للفلاحين والكادحين الخ)، أضعف مناعة الدولة السورية في مواجهة أعدائها، وفتح الثغر في جدرانها.
ينقل أسعد أبو خليل (الأخبار، «الرواية الناقصة، فاروق الشرع يتذكر»، 17 آذار 2015) عن حنا بطاطو، تساؤلات الأخير الملحاحة عن «لغز الأسد»،: «مَن يستشير حافظ الأسد؟ كيف يتابع عمليّة صنع القرار في الغرب، خصوصاً في أميركا؟ كيف كان يتوصّل إلى استنتاجاته في العلاقة مع الغرب؟ كيف كان يتلاعب بالحكومات الغربيّة بهذه المهارة الفائقة؟ ماذا كان يقرأ، ومَن كان يقدّم المشورة له؟ كان بطاطو مُعجباً بذكاء الأسد وبقدرته على المناورة في العلاقة مع الغرب، وفي بناء قوّة البلد الذي سيطر عليه بالقوّة المفرطة، ثم يضيف ــــ دائماً: آه، لو أنه استعمل هذا العقل الفذّ لعمل الخير». نقلت النص، متعمداً، ليرى القارئ، معي، كيف يؤدي اقتران الضغينة الفتحاوية (تظهر، صارخةً، في القسم الثالث من كتاب بطاطو» فلاحو سوريا») والسذاجة السياسية، إلى عجز باحث كبير عن فهم سياسات الأسد ومهاراته، كتعبير عن التزامه العضوي باستراتيجية قومية، لا كتعبير عن قدرات شخصية ومهارات هي موجودة بالفعل، ولكنها لا تفسّر ظاهرة الأسد الذي يقدم الشرع شهادته على عقدين من حضورها في «فعل الخير» لسوريا وبلاد الشام والعراق والعرب؛ هذا ما سنقرأه، في مفاصله الأساسية، في «أخبار» الجمعة المقبلة.