«شو جايينا من إدراج وادي قنوبين على لائحة التراث العالمي؟». يسأل رجل دين ماروني من مؤيدي الاستثمار السياحي في الوادي الواقع في قضاء بشرّي، الذي تملك البطريركية المارونية جزءاً كبيراً منه! «النَفَس الرأسمالي» لـ «الأبونا» يهدّد بتحويل «الوادي المقدس» لدى الموارنة وإرثهم الروحي والتاريخي إلى قبلة لروّاد المطاعم ومدخني «الأراكيل» ونزلاء الفنادق في هذه البقعة الساحرة، بدل أن يبقى محجّة للمؤمنين.
عيون المستثمرين مفتوحة على الوادي المدرج على لائحة التراث العالمي، والمشاريع بالجملة: «تيليفريك»، سلسلة مطاعم، فنادق وغيرها، مما لم تكن لتطرح لولا «الريق الحلو» من بعض رجال الدين، واقتصار منظمة «اليونسكو» على التحذيرات اللفظية من إزالة الوادي عن اللائحة. وتؤكد مسؤولة في إحدى الجمعيات المعنية بالمحافظة على الوادي أن كل المشاريع السياحية التي يجري الحديث عنها «تجد رعاية من البطريركية المارونية».
ملكية أراضي الوادي تعود الى الرهبانية اللبنانية المارونية، وتحديداً الرهبانية المريمية، إلى جانب عقارات خاصة ذات ملكية خاصة يعود معظمها الى سكان من منطقة حدشيت. «قداسة» الوادي تتعرّض للانتهاك على أيدي بعض من يفترض أن يكونوا من حرّاسه، فيما تجد الأطراف السياسية نفسها محرجة من رفع الصوت، لكون بكركي هي المعني الأول بالأمر. رئيس دير مار انطونيوس قزحيا، في قضاء زغرتا، مثلاً، أمر أخيراً بقطع ثمانين شجرة معمرة في الوادي للحصول على 40 طناً من الحطب، من دون إذن من وزارة الزراعة.

أمين سر اللجنة البطريركية للعناية بالوادي: ليتهم يشطبونه من لائحة التراث العالمي
وتشير المعلومات الى أن المسؤولين عن أملاك البطريركية أعطوا إذناً لأحد شركائهم ببناء منزل مطلّ على الوادي في العقار الرقم 38 التابع عقارياً للديمان، مخالفين بذلك أبرز بنود المحافظة على الوادي بحسب تصنيف منظمة اليونسكو، الذي يقضي بتأمين محيط الحماية له. وفي العقار الرقم 45 التابع عقارياً لقنوبين، الذي تملكه البطريركية المارونية، سمح المسؤولون أيضاً لشريك آخر بالبناء وبتوسعة منزله. (نشرت «الأخبار» في العدد ١١٣٣، الجمعة ٤ حزيران ٢٠١٠ تحقيقاً عن مخالفات في الوادي تجري بحماية من بعض الإكليروس).
في عام 2013، تقدمت البطريركية المارونية بدراسة الى اليونسكو تطلب فيها توسعة الطريق الى أربعة أمتار، وإضافة رصيفين للمشاة على جانبيها وتعبيدها بالباطون. أرسلت المنظمة المهندس الفرنسي بيار ماري تريكو للتثبت من الدراسة ميدانياً، فوجد أن لا حاجة للتوسعة، لكنّ المنظمة الدولية تراجعت عن رفضها، فيما بعد، عبر ممثلها جاد تابت، الذي قال في اجتماع في الديمان (13 آب 2014) خصص لبحث ملف الوادي، إن ما وصل الى اليونسكو من خلال الدراسة هو «اجتزاء غير دقيق يركز على اقتراح اقامة تيليفريك في الوادي»، بحسب محضر الاجتماع. وتوافق المجتمعون على «تبليط الطريق الترابية القائمة بالحجارة الصخرية المحلية بعرض لا يتجاوز ثلاثة أمتار وتأهيل طرق المشاة وإقامة الطرق الزراعية وترميم بيوت وكنائس ومعالم وادي قنوبين وإنشاء مراكز الاستقبال والاعلام والتوجيه ومحطات للاستراحة... لتوفير الحد الأدنى من حقوق قرية وادي قنوبين»، علماً بأن إدراج الوادي على اللائحة يلحظ واقع وجود حياة بشرية فيه.
أمين سر اللجنة البطريركية للعناية بالوادي جورج عرب يتسلح بهذا البيان، مشيراً الى «أطراف سياسية (القوات اللبنانية) تختلق هذه العناوين للتهويل»، جازماً بأن «لا أحد يريد ازالة الوادي عن لائحة التراث». ويسأل: «لماذا يحق لهم أن يشقوا أوتوستراداً على طريق الارز ويستفيدوا من المحمية سياحياً، ولا يحق لغيرهم القيام بالأمر نفسه في الوادي؟»، خالصاً الى القول: «ليتهم يشطبون الوادي عن هذه اللائحة. كل الخراب جرى بعد عام 1998. وُضع الوادي على اللائحة من دون متابعة من الدولة: لا حمامات ولا مواقف ولا دليل سياحياً». يؤكد عرب أن البطريرك بشارة الراعي «هو الوحيد الذي اهتم بوضع الناس في الوادي الذي يكاد يهجره أهله. وأبسط واجباته أن يُعنى بالبشر قبل الحجر»، فيما يقول أحد فعاليات الديمان، إن «مشكلة الراعي أنه أدار أذنه لعرب ولآخرين من أبناء المنطقة، ممن يبغون الربح الماديّ».
النائب البطريركي العام في منطقة الجبة المطران مارون عمار يوافق عرب على أن «غياب الحياة من وادي قنوبين يعني غياب التراث لأن هذا التراث من عمل الانسان». يقول إن الأهالي قصدوا بكركي «وجُلّ ما طلبوه كان شق طريق زراعية». يتساءل: «كيف نريد أن يهتم العالم بنا اذا لم نؤمن لهم الوسائل اللازمة؟». يغمز عمار من قناة البطريرك السابق نصرالله صفير: «في عهده لم يكن هناك حوار بين المعنيين كما يحصل اليوم». يؤكد المطران أن «قنوبين اليوم يمر في أحسن ظرف، لكن اليونيسكو تُهدد بسبب المشاكل الناجمة عن الصرف الصحي»، لافتاً الى أن العمل جار على حلّ هذا الملف «بالتعاون مع القوات اللبنانية، التي تسعى الى تأمين مركز لتنقية الصرف الصحي عبر القصب سيُكلف أكثر من 40 مليون دولار. هذا هو الخطر الحقيقي».

تجد الأطراف السياسية نفسها محرجة من رفع الصوت، لكون بكركي هي المعني الأول بالأمر

أما قطع ثمانين شجرة في قزحيا، «فما أهميتها بوجود آلاف الأشجار المزروعة. بيئياً، يجب كل فترة قطع الاشجار البرية؟» يتساءل. صحيح أن رئيس الدير مخايل فنيانوس عوقب لأنه لم يتبع الاجراءات القانونية، «الا أنه لم يُخطئ». أما المطعم المخالف في الوادي، فيرفض المطران ازالته «لأننا في أمس الحاجة اليه. نصف الزوار لن يأتوا لولا وجوده».
رئيس بلدية حدشيت ايلي حمصي يقول إنه «لو كان المطعم المخالف ضمن نطاق بلديتي ما كنت لأسمح له بالعمل»، لافتاً الى أن «هناك أناسا يريدون بناء زعامتهم على الخدمات المخالفة للمصلحة العامة»، غامزا من قناة النائب السابق جبران طوق. يرى أن «وجهة نظر الراعي بالاعتناء بالبشر قبل الحجر صائبة»، مذكّراً بحادثة سقوط إحدى الراهبات في الوادي، التي لم يتمكن الصليب الاحمر من الوصول اليها إلا بعد أربع ساعات. الأونيسكو، في رأيه، «يجب ألّا تكون متشددة. بالنتيجة هناك قرية اسمها قنوبين. نحن محتارون بين المصلحة العامة ومراعاة مصلحة الناس». أما المشاريع السياحية التي يُحكى عنها، «فغير قابلة للتنفيذ»، ملقياً باللوم على «اللجنة التي تألّفت في عهد صفير، وترأسها المطران سمير مظلوم، لأنها لم تتمكن من تحقيق شيء للوادي». أما المطران عمار، «فهو حريص جدا على الوادي».
رئيس بلدية بشري أنطوان طوق، يرى أن التحدي يكون بالتوفيق بين «الوادي كجزء من التراث العالمي، وحياة الناس القليلين هنا». وعما يشاع عن خلاف بين الراعي والقوات اللبنانية حول الملف، يرى طوق أن «من حسن حظ الوادي وجود نواب كستريدا طوق وايلي كيروز»، مؤكداً انه لا يمكنه «تخيّل وجود مطاعم وموسيقى في محج ديني، أو زيارة صومعة دينية بسيارته. هناك فرق بين المتنزّه والمحجة». ويضيف: «في الوادي تاريخ ديني وثقافي. والبعض، كالبطريركية المارونية، لديه أحلام باقامة قرى نموذجية، لا يمكن أن نقبلها».




عشرة أشخاص في الوادي

وادي قاديشا، يُعرف بالوادي المقدس نسبة الى جذور الكلمة السريانية. يبدأ من بلدة بشري ويتألف من واديين موازيين. في بلدة طورزا، ينقسم الوادي الى قسمين، الأول وادي قزحيا، الذي يمتد من بلدة اهدن الى وادي النهر، وتُشرف عليه ثلاث قرى. أما الثاني، فيمتد من بشري الى وادي النهر، ويُعرف باسم وادي قنوبين، وتُطل عليه ست قرى. يجمع الوادي جغرافياً بين قضاءي زغرتا وبشري، ومنه يسيل نهر قاديشا، الذي ينبع من مغارة تقع في منطقة الأرز، ويصل الى طرابلس ليتحول اسمه الى نهر أبو علي. في الوادي سكن البطاركة الموارنة منذ 400 سنة. يبلغ عدد الناخبين في قنوبين 1011 شخصاً، 189 شخصاً فقط يقترعون. المقيمون لا يتعدون العشرة بعد نزوح أو هجرة الباقين، ولا سيما إلى أستراليا وكندا.