المنامة | في الرحلة الجوية من دمشق الى المنامة، بدأت الأسئلة تدور متزاحمة ومتقاطعة، كشارع فقد إشاراته المرورية. كيف ستبدو البلاد؟ ماذا يجري هناك؟ وكيف تسير الثورة؟ أسئلة مشروعة في ظل تعتيم إعلامي. نصل الى المطار، حيث الحركة أقل من عادية. معظم الرحلات الجوية هي لشركات الخطوط الخليجية كالقطرية والإماراتية والعمانية، فيما يتضح أنّ الشركات العالمية قد قلّصت رحلاتها للعاصمة. في مبنى المطار الأكثر من فخم، تسير إجراءات الدخول بشيء من الدقة. البحرينيّون يُسألون عن مكان إقامتهم، والأجانب عن سبب الزيارة. هنا الكل مرحّب به إلا أصحاب السلطة الرابعة.
نصف ساعة في شوارع المنامة كان كفيلاً بكسر حاجز الرهبة تجاه هذا البلد. المشاهد الأولى قد تبدو مخادعة الى حد ما. عمارات شاهقة. فنادق أكثر من سبع نجوم، مجمّعات تجارية، لكن هذا ليس كل شيء. الجميع هنا متطوعون للحديث عن الانتفاضة، البعض يُلقي باللوم على النظام وأجهزته الأمنية والسعودية، والبعض الآخر يشيد بالملك وحكام الرياض، ويلقي باللوم على مؤامرة إيرانية لضم البحرين إلى بلاد فارس، لكن الجميع متفق على عبارة: البحرين ليست مصر ولا ليبيا ولا سوريا.
يمكن وصف الحياة اليومية في المنامة بأنّها متوترة للغاية. الوجوه تتساءل، إلى أين وإلى متى؟ الأسواق الراقية والمحال الشعبية، مرتادو المقاهي، الطلبة، الموظفون والتجار. ماذا يحدث في أصغر الدول العربية مساحة؟ ولماذا يختفي الخبر البحريني من على شاشات الأخبار العربية؟ يُجيب أحد الناشطين أنّ بعضاً من وسائل الإعلام أرسلت وفودها الى المنامة، فطلبت السلطة منهم المغادرة مع بداية الأزمة في منتصف شباط. أضف الى ذلك الاصطفاف السياسي للدول العربية مع حكام المنامة. ويضيف الشاب «اذا أردتم متابعة أخبار البحرين فيمكنكم مشاهدة القنوات السورية التي باتت تهتم بالبلاد بعد موقف المملكة تجاه العنف في سوريا».
قرب جسر ميدان الشهداء، تستعد قوى المعارضة للتحرك تحت اسم «طوفان المنامة». يقترب أحدهم من السيارة ويطلب منا أن نتوجه الى شارع «14 فبراير» على مسمى الثورة. تمرّ الساعات ويقع «الطوفان»، ولا تمرّ وسائل الإعلام في الخارج عليه حتى مرور الكرام. وإذا كانت الشعوب العربية تبلغ ذروة الاحتجاجات يوم الجمعة، فإن أهل البحرين قد حوّلوا كل الأيام الى جمعة. في أي ساعة يمكن أن تتوقع خروج الناس بتظاهرات تدعو إلى الحرية والكرامة.
وقرب ما بقي من دوار اللؤلؤة أو ما يُطلق عليه ميدان التحرير البحريني، تبدو الأجواء متوترة الى حد بعيد. فمنذ أيام تتوالى أحكام قضائية قاسية ضدّ متظاهرين متهمين بإثارة العنف. وأصبح عدد من الكوادر الطبية تحت خطر الاعتقال، والتهمة هي إسعاف المتظاهرين. يقول أحد الأطباء الذين صدرت بحقهم أحكام بالسجن تصل لمدة 15 عاماً: «بينما كنت معتقلاً، أجبروني على التوقيع على اعترافات معنونة بـ«مؤامرة الأطباء لإطاحة النظام»».
وفي أروقة المستشفى في قلب المنامة، يروي أحد الممرضين قصة اعتقال الدكتور علي العكري، الطبيب الذي تطوع للذهاب إلى قطاع غزة أيام العدوان الإسرائيلي في 2008. سبب كان كافياً بالنسبة إلى السلطة لاتهامه بأنه تدرب على استخدام «الكلاشينكوف» أثناء وجوده في الأراضي الفلسطينية.
وفي دوار اللؤلؤة أو ما بقي منه، يبدو طائر فينيق الثورة كأنّه يستعد للنهوض من جديد، رغم الانتشار الهستيري لقوى الأمن الخليجية هناك. حراك الناس وتجمهرهم يلمحان الى عودة نشطة وقوية تذكر بالأيام الأولى للثورة. النصب التذكاري الذي بُني في الثمانينيات كرمز لدول مجلس التعاون الخليجي بشكل مسدس، تتوسطه لؤلؤة ترمز إلى البحرين، هو بالفعل مركز رئيسي للعاصمة، حيث تتقاطع عنده الطرق المؤدية إلى باقي مناطق المملكة. الى الشرق منه، يتموضع السوق المركزي الشعبي، ويلاقيه في الغرب مجمع «سيتي سنتر»، وهذا أيضاً له قصة أخرى. أما مركز الشرطة فيقع الى الجنوب بالمرصاد لكل التحركات.
يتذكر أهل البحرين مكان الدوار، أيام الخمسينيات، الذي شهد أول حراك سياسي في البلاد، وتمثل في حينها بانتخاب هيئة الاتحاد الوطني. وبالعودة إلى يوميات الدوار، فإن جنون الأمن فيه يبلغ مداه مع توقف سيارتين على الأقل ليركض العناصر بسرعة، ويسألون بعنف عن سبب التوقف. والمثير للاستغراب هو تعدّد لهجات عناصر الأمن ولغاتهم، لهجات سعودية ويمنية وأردنية ومصرية. وتجد عناصر أمن من باكستان والهند وأفغانستان. ويرجع ناشط السبب الى قلة رجال الأمن المواطنين، وهو ما يدفع بنظام الملك حمد بن عيسى آل خليفة الى تجنيس أكبر عدد ممكن، ثم تطويعهم في أجهزة حفظ النظام. وفي الدوار أيضاً من يقفز بحماسة، مُشيداً برجال الأمن، قائلاً إن «المتظاهرين الى هنا جاؤوا بسيوف وخناجر مسمومة، وهدفهم إقامة دولة رافضة شيعية»، ويرى أنّ «الأطباء والممرضين في مستشفى السلمانية قد انضمّوا إلى التظاهرة لا لشي إلا لكونهم طائفيين». ويصرّ من يقول إنه شاهد العيان على «فضح الإرهابيين، فهدفهم بسط نفوذ إيران في الجزيرة العربية».
بين شوارع المنامة يبرز مبنى «سيتي سنتر». مجمع تجاري لا يختلف في الخارج عن أي مجمع آخر. لكن أعمدته وزجاجه تروي من الداخل قصصاً عن احتجاجات انطلقت منه، وصلت الى حد اعتقال المتظاهرين وضربهم. مجرد أن يجتمع بضعة أفراد في أي من طوابق المجمع، لا يكون مستغرباً أن يهرع عشرات رجال الأمن ومعهم عدد من العناصر يرتدون ملابس داكنة، تبيّن لاحقاً أنهم من جهاز أمن آخر، ويبدأون حملة ضرب واعتقال من دون تمييز بين رجل وامرأة، وليتم تكديس المعتقلين بعضهم فوق بعض بطريقة تذكّر بأيام سجن أبو غريب العراقي، قبل أن يبدأ نقلهم الى مراكز الأمن، وهناك تبدأ حكاية أخرى.



فقر وتجنيس

يتوقع الزائر لمملكة البحرين أن تكون مطابقة لأي بلد خليجي غنيّ بثروات النفط وأمواله. لكنّ كل هذه التوقعات لا تلبث أن تنهار مع الاحتكاك الأول في مدن الجزيرة الصغيرة وقراها وشوارعها. يكتشف أنها ليست كجيرانها من دول الخليج، فإنتاج البحرين من النفط قليل مقارنة بأقرانها. وفي أزقة أحيائها حكايات فقر مدقع، وخاصة تلك القرى المتراكمة على الأطراف. من جهة ثانية، فإنّ التجنيس السياسي قد لعب لعبته بشدّة مع استقدام السلطة مواطني دول ثانية وتجنيسهم ومنحهم امتيازات عالية، دفعاً لإحداث تغيير ديموغرافي في البلاد. بل إن حالة من الإحباط والاشمئزاز تنتاب الزائر عندما يتحطم اقتناعه السابق عن شعوب الخليج الذي يدعم الثورات في مصر وتونس واليمن وليبيا، ولكن تُصمّ آذانه عندما يقترب من شعب البحرين الذي خذله أقرانه، زاعماً أنه ينعم برفاهية ولا يحتاج إلى التعبير عن رأيه ما دام يعيش في بحبوحة، فيما ينتفض الناس هناك وسط تعتيم إعلامي شديد، وهجوم وفق نظرية المؤامرة الفارسية ضدّ بني العرب، وبينهما لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص وصراخ المعتقلين.