«أنا الرّائد طيار رشاد ششة... من سلاح الجو الملكي السعودي... أطلب الإذن بالهبوط... أطلب الهبوط لأمر مهم وخطِر. أكرّر: الأمر مهم وخطير».كان ذلك هو نص الاتصال الذي تلقاه برج المراقبة في مطار ألماظة (في القاهرة) من طائرة غامضة اخترقت المجالَ الجوي المصري، من ناحية البحر الأحمر، صباح يوم الثلاثاء 2 تشرين الأول 1962.
سُمِح للرائد ششة الذي كان يقود طائرة شحن عسكرية سعودية (أميركية الصنع من طراز «فيرتشيلد 123 ب») بالنزول، في مطار ألماظة، برفقة معاونيه الملازم طيّار أحمد حسين، والفني محمد أزميرلي. وبعد تفتيش طائرتهم، تبيّن أنها محمّلة بعشرين صندوقاً ضخماً، وبداخل كل صندوق اثنا عشر مدفعاً رشاشاً، بالإضافة إلى مئات من الصناديق التي تحتوي على ذخائر حربية. وكانت كل تلك الصناديق تحمل رمزا واضحا: كَفان تتلاقيان... وكان ذلك هو تماماً رمز المعونة الأميركية الخيرية للدول الفقيرة!

وقال أفراد الطاقم السعودي للسلطات المصرية إنهم يطلبون لجوءا سياسياً في مصر، لأنهم عصوا أوامر عسكرية صدرت لهم من رؤسائهم، وقضت بأن يطيروا من جدة إلى نجران في جنوب المملكة على حدود اليمن، حيث عليهم أن يسلّموا حمولتهم، ويعودوا من جديد ليكرروا الرحلة المشحونة «بالمعونة الأميركية الخيرية» ثلاث مرات كل يوم. وقال الثلاثة إنهم شكّوا أولاً في طبيعة هذه الشحنات، وفي الأطراف التي ستتلقاها منهم، ثم إنهم تحققوا أنّ الصناديق المموّهة بشعار المعونة الأميركية، ما هي إلا أسلحة تجهّز كي يجري تسريبها إلى ميليشيات يمنية متمردة على سلطات صنعاء، ولكي تكون وقوداً ضرورياً في إشعال حرب أهلية بين اليمنيين. وقال الثلاثة إنهم يأبون أن يُجعلوا وسيلة في إراقة دماء أبناء اليمن، وإنهم يفضّلون أن يكونوا سبباً في فضح المكر السعودي السيّئ ضد جيران فقراء.
الترفع السعودي
الممزوج باحتقار لليمنيين ظلّ
على حاله ولم يتبدّل

في الغد، الأربعاء 3 تشرين الأول 1962، تكرر ما حصل بالأمس في ألماظة، إنما هذه المرّة في مطار أسوان، حيث طلبت طائرة شحن عسكرية سعودية (من الطراز الأميركي نفسه) الإذن بالهبوط بحمولتها. وكان على متنها الرائد طيار محمد عبد الوهاب، والملازم طيار محمد علي الزهراني.
وبعد خمسة أيام، في 8 تشرين الأول، جاء دور طائرتين سعوديتين مقاتلتين، لجأتا بدورهما إلى مطار الماظة. وكان على متن الأولى الرائد طيار محمد موسى عواد، وعلى متن الثانية الرائد طيار عبد اللطيف الغنوري.
كان جميع هؤلاء الطيارين سعوديي الجنسية. ولقد أبوا أن يتحملوا وزر المشاركة في عدوان أسرة طاغية لنصرة أسرة ظالمة ضد شعب مظلوم.

مملكة السيف ومملكة الخناجر

لم تكن العلاقة جيدة يوما بين آل سعود وآل حميد الدين الذين لطالما حكموا اليمن بأسلوب عزَلهُ خلف حجاب ثقيل من القمع والتجهيل والإفقار (1) حتى قام عليهم انقلاب عسكري يوم 26 أيلول 1962 أطاح مملكتهم المتوكلية. ولقد تحاربت الأسرتان الملكيتان في الماضي طويلاً، وكادتا بعضهما لبعض كثيراً، وكرهت كلتاهما الأخرى، وتوجستا من بعضهما بعضا دائماً. ثمّ استقرت الأحوال بينهما باردة بعد سلسلة حروب تلتها «اتفاقية صلح» بين السلالتين عام 1934. على أنّ الترفع السعودي الممزوج باحتقار لليمنيين ظل على حاله لم يتبدل، وكذلك بقي حقد آل حميد الدين الممزوج حسداً.
ولعل الضغينة بين السلالتين قد بدأت يوم خُيّل لعبد العزيز آل سعود في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، أنه يستطيع أن يوسّع حدود مملكته جنوباً من دون أن يثير حفيظة بريطانيا التي كانت قد حرّمت عليه التفكير في المساس بمحمياتها على شاطئ الخليج. وكان من بين الأسباب التي دغدغت مطامع عبد العزيز أنّ بلاد اليمن لم يكن عليها - على خلاف غيرها - وصيٌ أجنبي يذبّ عنها. فقد اتبع الإمام يحيى حميد الدين، عن حكمةٍ أو عن تصلب، سياسة النأي بنفسه عن الوصاية والأوصياء: أتراكاً كانوا، أو أعراباً، أو أحباشاً، أو انكليزا...
كانت غزوة اليمن، في ربيع عام 1934، آخر حروب عبد العزيز التوسعية. فقد وجّه نحو الجنوب جيشين سعوديين بقيادة ابنيه الأميرين سعود وفيصل. وكانت الخطة أن يلتف الجيشان حول اليمن، في حركة كماشة للاستيلاء على هذه المملكة المعزولة الممتدة من عسير حتى حدود محمية عدن البريطانية. وكان ظن السعوديين أن غزوتهم ستكون نزهة للفارق الضخم في التسليح بين الفريقين. لكنّ المفاجأة التي لم تخطر لأحد، هي أنّ رجال جبال صعدة ببنادقهم القديمة لقّنوا جنود آل سعود درساً قاسياً في التكتيك وفي استثمار الجغرافيا، وفيما تقدّم جيش الأمير فيصل عبر سهل تهامة على ساحل البحر الأحمر بلا صعوبات تذكر؛ وقع الجيش السعودي الرئيسي في حملة اليمن، في سلسلة لا تنتهي من الفخاخ والكمائن الجبلية التي استنزفت رجاله، وشلّت حركته، وأعاقت تقدمه، بل أغلقت عليه حتى إمكانيات تقهقره! ولم يكن جيش الغزاة السعوديين الذي قاده الأمير سعود متعوّداً إلاّ القتال في سهول الصحراء، مما ألحق به في حرب الجبال هزيمة نكراء.
ولم يبق لعبد العزيز سوى أن يرضى بمغنم جيزان ونجران اللتين تنازل عنهما حاكمهما الشريف الإدريسي واستولى عليهما فيصل، وأن يطوي بقية أوهامه في بلاد اليمن، ويلعق جراحه، ويرسل ابنه خالد للتفاوض على شروط فك الاشتباك، وعقد اتفاقية سلام مع ممثلي الإمام يحيى. وجرى ذلك فعلاً، في الطائف، في شهر أيار 1934. وهناك توافق الطرفان على أن تكون خطوط فض الاشتباك بين الجيشين خطاً رسمياً للحدود بين البلدين، وعلى ألا يعتدي أحدهما على الآخر مستقبلاً، وأن «يكون التعاون بينهما على البِر والتقوى، بدلاً من أن يكون على الإثم والعدوان».
ولقد كان لافتاً كيف أنّ الإمام يحيى حميد الدين، وهو حاكم يابس الرأس، قبِل التنازل لآل سعود عن مقاطعتين لطالما عدّهما امتداداً طبيعياً لمملكته، برغم أنه لم يخسر المعركة العسكرية تماماً، بل إن خصومه هم الذين وحلوا في جبال اليمن. ولعل تفكير الرجل حينذاك كان منصرفاً نحو مسألتين: الأولى، أن يصرف فوراً عن بلاده أذى حملات سعودية كان لا بد أن تتوالى عليها. وكان يحيى يدرك جيداً أنّ جيوش الوهابيين، برغم خسارتها، أكبر من جيشه عدداً، وأكثر عتاداً، وأوفر مالاً، وأغزر خبرة وتجربة. وأمّا المسألة الثانية التي فكّر فيها إمام اليمن، فهي أنه لن ينام أبداً على ضيم، وأنه سيستفيد من الزمن حتى تنشغل مملكة السيف عنه بشواغلها الأخرى، ثمّ إنه لا بد أن يقتنص فرصة سانحة لينقض بخنجره على عدوه، فيبلغ ثأره، ويورده قبره، ويشفي صدره.
وفي صباح يوم 15 أيار 1935 (بعد عام بالتمام والكمال على اتفاقية الطائف) كان الملك عبد العزيز يطوف بالكعبة مصحوباً بولي عهده سعود، وفجأة داهمه ثلاثة رجال بخناجرهم وكادوا أن يذبحوه لولا أن تداركه سعود الذي دفعه أرضا ليحميه من الطعنات. وجُرح سعود في كتفه، وجُرح عبد العزيز في ساقه جرّاء قطعة رخام طيّرها رصاص حراسه الذين قتلوا المهاجمين. ثمّ تبيّن لاحقاً من التحقيقات أن الثلاثة كانوا جنوداً يمنيين، جاؤوا من تلك الجبال التي تعوّدت أن تقتص من أعدائها، ولو بعد حين!

استنفار وهابي لنجدة حكم شيعي

استمرّ الحال بين آل سعود وأسرة حميد الدين فاتراً ثلاثة عقود أخرى، حتى اصطدمت السلالتان بتغيير دراماتيكي خطير، وذلك حين أعلنت إذاعة صنعاء في صباح يوم 26 أيلول 1962، حدوث «ثورة» في البلد، أسقطت الملكية وأئمتها، وأعلنت قيام الجمهورية العربية اليمنية.
لم يرض آل سعود عن هذا الوضع المستجد أبداً. فقيام الجمهوريات وإسقاط الملكيات في معقلهم بشبه الجزيرة العربية خط أحمر دونه فك الرقاب. وفجأة تذكّر السعوديون أنّ الإمام محمد البدر بن أحمد بن يحيى حميد الدين ما هو إلاّ الحاكم «الشرعي» لليمن، ويجب ألّا ينازعه منازع في مُلكه. وكذلك صدرت الفتاوى الوهابية عاجلة تتوالى وتزعم بأنّ الخروج على حكم الإمام (الشيعي/ الزيدي) يعد تمرداً آثماً على ولي الأمر الشرعي، وأنه يجب على كافة اليمنيين النفير لرد هذا الخطر الصائل على بيضة الدين وعلى أرواح العباد وأرزاقهم، وأنه يلزم على ساسة الأمّة التوحد والوقوف صفاً مرصوصاً لردع هذا التمرد الآثم، ومقارعته بالحزم المناسب.
ولقد زاد اعتراف الجمهورية العربية المتحدة (مصر) بشرعية النظام الجمهوري الجديد في اليمن بعد يومين من انبثاقه، من سعار المملكة السعودية. وحين أعلنت وزارة الخارجية المصرية في بيانها أنّ القاهرة مستعدة لمساعدة اليمن وشعبه بما يمكّنهما من دخول العصر الحديث، وحين أعلن الاتحاد السوفياتي الأمر نفسه بعد أيام قليلة، فإنّ هياج السعوديين بلغ أقصاه. لقد كانت «المؤامرة الناصرية الشيوعية» على المملكة واضحة جلية لا لبس فيها في عيون آل سعود. وكان لا بد للرياض أن تتحرك بحزم... بعاصفة من الحزم!
لجأ إمام اليمن إلى السعودية فارّاً من صنعاء التي ثار جيشها عليه. واحتفى السعوديون بهذا الطريد احتفاء بالغاً لم يألفه منهم حين كان مليكاً على بلاد وعباد. ولقد جاء الرجل إلى آل سعود مستنجداً بنخوتهم وشهامتهم العربية حتى يعيدوه إلى الحكم على أسنة حرابهم. وأجابه أهل النخوة والشهامة أن «أبشر». وكذلك استقر المقام بالإمام البدر في نجران يدير منها عمليات حرب عصابات ضد الحكم الجديد. وسريعاً ما بدأ يتدفق عليه مَدَدُ الطائرات السعودية المحمّلة بصناديق المعونة الأميركية الخيرية، وبالذهب اللازم لشراء الذمم، وبالريالات...
وبدأ السعوديون يجمّعون حلفاً يساندهم في حربهم على اليمن. وكان لا بد لهذا الحلف أن ينال مباركة أميركا، لكنّ واشنطن كانت مشغولة تلك الأيام بأزمة الصواريخ الكوبية، فلم يكن في إدارة الرئيس كينيدي بالٌ واسع لسماع وَلـْوَلات آل سعود الشاكية من المدّ الناصري (الشيوعي) الذي يسعى لكي يطوقهم من كل جانب. ولجأ السعوديون إلى حلفائهم القدامى الإنكليز ليعينوهم في هذه المحنة الجديدة. وبدت للندن أسبابها الخاصة لقبول مساعدة آل سعود، فمصالحها في محمية عدن قد تتضرر بعدوى الدعاوى الرائجة في ذلك العصر كوجوب فرض الاشتراكية ونظام التأميم، والنداء إلى وحدة القومية العربية، والسعي إلى التحرر من الاستعمار... وكان كل ذلك صداعا عانته لندن منذ سنوات في أزمة قناة السويس، وهي تخشى أن يلحق بها في باب المندب أيضاً. وهكذا بدأت القوات البريطانية المتمركزة في جنوب اليمن سلسلة من التحرشات والاستفزازات العسكرية للنظام الجديد في صنعاء، وبلغت الأمور ذروتها حين قصف البريطانيون مدينة البيضاء من دون أن يكون هناك موجب أو سبب. وشعرت الحكومة اليمنية، وقد هالها حجم التآمر السعودي ضدها في الشمال، والتآمر البريطاني في الجنوب، أنّ من المفيد لها أن تطلب عون أصدقائها المصريين هي الأخرى. وكذلك بدأت طلائع من الجيش المصري بالوصول فعلاً إلى اليمن في تشرين الأول 1962.
كان ظهور مصر على مسرح أحداث اليمن بمثابة الصاعق الذي فجّر كل الحنق المكبوت في صدور آل سعود. ورأى حكام الرياض أنّ اليمن شأن سعودي محض، ولا يجوز للغرباء المصريين أن يحشروا أنوفهم فيه، وأنّ «التلاعب باليمن» تلاعب بأمن السعودية نفسها. وهذا أمرٌ لن يمرّ!
وأرسل الرئيس الأميركي جون كينيدي رسائل رسمية، في 17 تشرين الثاني 1962، يبلغ فيها أطراف الأزمة اليمنية (2) مبادرة للحل تقضي بانسحاب القوات المصرية المساندة للنظام اليمني الجديد على مراحل، وإنشاء نظام فض اشتباك من الأمم المتحدة، وإيقاف المدد السعودي الأردني بالأسلحة للملكيين في اليمن، وتعهد الجمهورية اليمنية احترام الالتزامات الدولية ليطمئن جيرانها، مع تعهد أميركي بالاعتراف بالجمهورية اليمنية إذا التزم كل الأطراف هذه المقترحات.
ولقد وافقت مصر على مبادرة كينيدي، وأبت السعودية، ومانعت بريطانيا. وفي خطوة عُدّت رداً على «الحرد» السعودي البريطاني، أعلنت الولايات المتحدة اعترافها القانوني بالجمهورية العربية اليمنية، يوم 19 كانون الأول 1962. وطار صواب الرياض، ورأى حكامها أنّ الحل الأميركي للصلح في اليمن، ومن ثمّ الاعتراف بالنظام الجمهوري الجديد، ما هو إلاّ انحيازاً كاملاً «للمحور الناصري – الشيوعي» على حساب محور حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط. وأخذت الهلوسات بالسعوديين كل مأخذ، فتوهموا أنّ أميركا ربما تسعى «للغدر بهم»، فتبدّل أحلافها معهم، بحلف جديد مع عبد الناصر. وكتب جهابذة آخرون في صحف تموّلها السعودية أن إدارة الرئيس كينيدي إدارة ضعيفة جداً وجاهلة فهي لا تدرك حقائق الأمور في المنطقة، وأمّا الرئيس الأميركي فهو غرّ ومتردد ويريد أن يتفادى كل مواجهة مع المحور الناصري. وأنّ الحل هو أن تقلع الرياض شوكها بنفسها، وأن تأخذ زمام الأمور بيدها بحزم... وكان كل ذلك كتلة من الهُراء!

المرتزقة لفك محنة البروستاتا

وأخذ السعوديون يلتفتون نحو اليمين ونحو الشمال بحثاً عمّن يؤازرهم على اليمن. ولقد لجأوا إلى حليفهم الباكستاني فلم يتحمس الحليفُ للمشاركة في عدوان على بلاد بعيدة عنه، وليس له فيها مصالح تذكر. ولكنه بالمقابل وعدهم بالنصرة إن تعرضت الأراضي السعودية نفسها للعدوان. ولجأ السعوديون إلى شاه إيران فوعدهم بدعم لوجستي واستخباري لمصلحتهم، لا أكثر من ذلك. ثمّ طرق الجماعة باب الفرنسيين فوعدوهم أيضاً بالمساندة اللوجستية من قاعدتهم في جيبوتي. ولم يستنكف آل سعود أن يطرقوا الباب الإسرائيلي أيضاً. وبالفعل فقد استعان رئيس الاستخبارات السعودية كمال أدهم (وهو أيضا صهر الملك فيصل بن عبد العزيز) بصديقه سمسار السلاح السعودي عدنان خاشقجي، حتى يجسّ له نبض إسرائيل، وما يمكنها أن تساعد به السعودية في حربها اليمنية. والتقى خاشقجي في باريس، في أوائل سنة 1963، شمعون بيريز الذي كان يشغل وقتها منصب مساعد وزير الدفاع الإسرائيلي. واتفق الطرفان السعودي والإسرائيلي على التعاون في اليمن «على البرّ والتقوى» (3)!
ولقد شاركت إسرائيل في حملة التحالف السعودي على اليمن، وتولت طائراتها المنطلقة من المستعمرة الفرنسية جيبوتي، إنزال عتاد عسكري لجيوب المتمردين والمرتزقة الأجانب في الجبال. وكان الاسم الرمزي لعمليات إسرائيل في التحالف ضد اليمن، هو «مانغو». ولم تكتف تل أبيب بهذا العون للسعودية، بل إنها أرسلت فرق كوماندوس قوامها جنود من اليهود اليمنيين الذين هاجروا لإسرائيل. وذلك كي يسهل عليهم، بعد أن ينفذوا عملياتهم الخاصة، أن يذوبوا في المجتمع الذي سبق لهم أن عاشوا فيه وألِفوه (4).
على أنّ السعوديين وجدوا حليفاً عظيما في شخص حسين ملك الأردن. فالرجل قدّم خدماته طوعاً وفوراً. وعرض الشريف الهاشمي أن يشارك السعوديين في مجهود الحملة على اليمن، كتفا بكتف. وكذلك اصدر حسين أوامره لقائد سلاح الجو الملكي الأردني سهل حمزة بأن يشارك طياروه النشامى في مهمة نقل العتاد الحربي إلى معسكرات الملكيين اليمنيين في نجران، بعدما تعفف طيارون سعوديون عن أداء هذه المهمات القذرة الساعية لخلق حرب أهلية في اليمن. وفي يوم 12 تشرين الثاني 1962، تلقى الملك الأردني حسين صفعة مذلة جداً. فقد هبطت في مطار القاهرة طائرة أردنية من طراز «دي هافيلاند هورن»، وكان على متنها قائد سلاح الجو الأردني اللواء سهل حمزة بشحمه ولحمه. وكان مطلب حمزة الوحيد هو اللجوء السياسي إلى مصر.
وفي اليوم التالي، 13 تشرين الثاني، هبطت في مطار القاهرة أيضاً طائرتان أردنيتان من طراز «هوكر هنتر» يقودهما الطيّاران تحسين صيمة وحربي صندوقة. وكان قرارهما هما أيضاً أنّ المنفى أفضل لهما من المشاركة في حرب عدوانية على بلد عربي.
ولم يستسلم آل سعود لخذلان طياريهم (5)، ولا لخذلان طياري الشريف الهاشمي. اتجهت مساعيهم نحو طرف جديد يقبض، ويحقق المراد من دون أن يؤنبه وجع ضمير، أو التزام بقضايا أمّة. وكان ذلك الطرف جموعاً كبيرة من المرتزقة الذين استعان بهم الحكم السعودي في قضاء حوائجه بالسر والكتمان. ولم يكن عويصاً على من اكتنزوا أكواماً من المال لكنهم صاروا يعانون «البروستاتا»، أن يستأجروا من يواقع نيابة عنهم!
وهكذا بدأت تتألف منظمات خاصة للقتال بأجر (هي أقرب إلى الشركات الأمنية). وبزغت في هذا المجال أسماء مثل المرتزق الفرنسي بوب دينار (6)، والميجور الإنكليزي جون كوبر الذي تسلل مع قوة خاصة من مساعديه إلى منطقة الجوف. وكان قد ترك الخدمة في جيش بلاده، وكوّن شركة ًخاصة أخذت تجتذب إليها قدامى المحاربين الأوروبيين من أجل القتال في اليمن، بمبالغ قدّرت صحيفة «الأوبزرفر» في تحقيق لها نـُشر في عدد يوم 9 أيار 1964، أنها تراوح بين 400 و500 جنيه استرليني في الشهر، تدفعها المملكة السعودية. وولـّى المستأجـِرون وجوههم صوب باريس كذلك حيث كان فيها كثر من مقاتلي «منظمة الجيش السري» الذين أغراهم، فضلاً عن المال، حب الانتقام من عبد الناصر، والثأر منه لدعمه جبهة التحرير الجزائرية.
ولقد استمرت الحرب السعودية تُدمي ظهور اليمنيين سنين، ولكنها لم تنته إلى شيء. فلا المَلِك الفار عاد إلى صنعاء من جديد، ولا شرعيته المزعومة أغنت عنه شيئاً، ولا المرتزقة المأجورون أفادوا في تغيير مقادير الأمور في اليمن. وفي نهاية المطاف، اضطرت المملكة السعودية نفسها إلى أن تعترف بالجمهورية اليمنية، وأنفها صاغر.

هوامش

(1) كان حكم نظام أسرة حميد الدين موغلاً في التخلف. وإلى حدود الستينيات من القرن العشرين، لم يكن في اليمن كلية علمية واحدة، ولم يكن فيها مستشفى مجهز واحد، بل لم يكن في البلاد طبيب مؤهل واحد، ولا مهندس مجاز، ولا طريق معبّد صالح، ولا حتى مؤسسات إدارة مدنية منظمة!
(2) بعث الرئيس جون كينيدي برسائل إلى كل من عبد الناصر، والملك حسين، والأمير فيصل آل سعود، وعبد الله السلال رئيس اليمن يشرح فيها عناصر مبادرته لحل أزمة اليمن. يمكن مراجعة نسخ من تلك الوثائق في كتاب «سنوات الغليان» لمحمد حسنين هيكل، طبعة مركز الأهرام للترجمة والنشر ص. 640.
(3) اعترف تاجر السلاح السعودي عدنان خاشقجي بوقائع لقائه الأول مع شمعون بيريز في باريس عام 1963، في شهادته أمام لجان فرعية الفها الكونغرس الأميركي سنة 1987، للتحقيق في ما عُرِفَ بقضية «إيران غيت».
(4) محمد حسنين هيكل، «سنوات الغليان»، ص. 669 -670.
(5) منذ أن عصى الطيارون السعوديون أوامر الأسرة المالكة لهم، فهِمَ الأمراءُ أنّ من واجبهم أن يتحمّلوا مسؤولياتهم القتالية بأنفسهم. وهكذا ألزِمَ كثير من الأمراء السعوديين بأن يتدربوا على قيادة المقاتلات الحربية. وحالياً فإن ثلاثة ًمن أصل كل خمسة طيارين مقاتلين في سلاح الجو السعودي، هم من أمراء آل سعود. ولعل الهدف من هذه الخدمة العسكرية الإلزامية هو أن يكون سلاح الجو السعودي في يد الأمراء إذا حانت لحظة عصيبة في يوم ما.
(6) اشتهر بوب دينار في حرب اليمن باسم «الإمام جعفري». والرجل ذو تاريخ حافل منذ دخل إلى السجن في فرنسا في أواسط الخمسينيات، بتهمة محاولة اغتيال رئيس وزرائها منداس فرانس، وحتى تنظيمه لسلسلة انقلابات في جزر القمر أشهرها عام 1978 حيث تسلم السلطة مؤقتاً في البلد، قبل أن يعيد إلى الحكم الرئيس المخلوع أحمد عبد الله. ثمّ لمّا اختلف دينار مع عبد الله فإنّ المرتزق قتل الرئيس.
* كاتب عربي