فلنفكر منطقياً: ما الخيارات المتبقية للخروج من المأزق اللبناني الراهن؟ جدياً لم يطرح أي حل واقعي بعد. كل الأفكار، وخصوصاً تلك الكامنة وغير المعلنة، لا تزال من نوع المستحيل أو الكارثي. فلنتصارح، فكلنا يعرف بعضنا، والبلد صغير، ولا أسرار فيه، على عكس الأوهام. ثمة أول خيار مطروح، ولا يزال، عنوانه أن تنهي عاصفة الحزم معركتها في اليمن خلال أسابيع.
تنتقل بعدها أواخر الصيف إلى سوريا. هنا، على حدودنا، تكون تركيا قد مهدت الأرضين والجوين، ميدانياً وسياسياً، لإقامة منطقة حظر على الطيران الحربي. وتكون حجارة إدلب وجسر الشغور قد بدأت تكتسب صقيع كرة الثلج أو دينامية الدومينو. فتكرج صوب الساحل السوري وصوب دمشق. يسقط الأسد. فيسقط بعده فوراً نصرالله. تماماً كما قيل بالحرف منذ أربعة أعوام ونيف. بعدها لا لزوم لانتخابات، ولا لمن ينتخبون. تصير تزكية لنظام الحسم الاستراتيجي السعودي الجديد. كل ذلك لمجرد أن إيران أخطأت في حساباتها. فسكرت من رحيق الأميركي، حتى ارتكبت خطأ صدام. ذهبت إلى تعز. فوقفت عند أبواب باب المندب. فزلّت قدمها، كما تزلّ ألسنة مسؤوليها مراراً وتكراراً... كان هذا رهاناً، ولا يزال.
وفي المقابل كان رهان آخر، ولا شك أنه مستمر. رهان يقول إن واشنطن تعبت من الدول المصطنعة ومن الأنظمة المستمرة على قيد الحياة بالتنفس الاصطناعي. تعبت من أن تحمل وتتحمل «اسرائيلات» مذهبية أو عسكريتارية أو نفطية أو قبلية، في منطقة لم تعد تشكل عمقاً استراتيجياً لها. رهان يقول إن أوباما منذ وقع تلك المذكرة السرية في آب 2010، معلناً أن إدارته قررت تغيير منطقتنا، وهو يتطلع صوب طهران. فالرجل يدرك مصالح بلاده، لا كما نتوهمها نحن. وهو يدرك قواعد سيرة كل سيد للبيت الأبيض. فكل خليفة لجورج واشنطن يحتاج، كما الأب المؤسس، إلى حربه الخاصة وإلى سلامه الخاص. خاض ابن حسين أوباما حربه ضد بن لادن، حتى انتصر عليه وصرعه يوم عطلة عملنا من أيار 2011. ليقول لنا إننا في عطلة دائمة أو عاطلون دوماً. فيما امبراطوريته لا تعطل ولا تتعطل ولا تخطئ ولا تبطئ. فلم يبق له وهو على أهبة الاستعداد لمغادرة مكتبه البيضاوي، إلا أن ينجز سلامه. حاول هنا في ما هو فلسطين، فحرمه إياه أصولي آخر اسمه نتنياهو. تركه يلهو بحروبه الداخلية، مع الفالاشا، ومع اليسار، ومع عرب فلسطين، حتى ينهك أو يقتنع. وذهب يبحث عن سلامه في الأبعد، أو في الأقرب. في الأبعد الذي يغيظ صقر الليكود. وفي الأقرب الذي يلامس شواطئ فلوريدا. حدد أوباما لسلامه هدفين: طهران، وهافانا... يقول الرهان الثاني، إن أوباما نظر إلى خارطة الشرق. فلم يجد دولة طبيعية حقيقية من المتوسط حتى باكستان، إلا إيران. وحدها دولة ــــ دولة، بينه وبين الصين، خصمه المقبل لعقود آتية. إن كسبت بكين طهران، خسر أوباما معركة الزعامة الكونية الآتية. وإن أبعدها عن خلفاء ماو الذين حولوا ثورته الثقافية إلى معمل العالم ومصنع الأرض، حقق نقطة إضافية في طريق استدامة عهد إمبراطوريته غير المسبوقة. هكذا قرر أوباما أن يغازل الملالي، يقول الرهان الثاني. ينسج معهم ميني – يالطا. أفضل من أن يجد نفسه مضطراً لعقده لاحقاً مع الدب الروسي أو التنين الصيني... من سيعترض أو يحتج؟ بضع عائلات نفطية؟ نبدل أسماءهم وأجيالهم. نأتي بهم إلى كامب دايفيد، نخبة جديدة، نفهمهم قواعد عالمنا الجديد، ويمشي الحال. تركيا تأخذ حصتها في العراق. وتعود طهران إلى زمن برسيبوليس... كان الرهان يقول، ولا يزال، إن العصر الشرق أوسطي المقبل هو العصر الإيراني. وإن الآخرين إلى أفول.
لا رهان لبنانياً بين الاثنين. حتى ما بدا على سذاجته أنه محاولة «مشروع لبناني»، لم يكن فعلياً إلا مشروع استدراج وصاية دولية جديدة. اعتقد البعض أنه يمكن لذلك الرحم المتكلس الذي كان يوماً أماً حنوناً، أن ينجب لنا خياراً أممياً يحمي السيادة. قرار صادر عن مجلس الأمن، مماثل للقرار 1559. مع فارق أن الأول كان سالباً بمعنى رفض التمديد الرئاسي. فيما الثاني سيكون موجباً، بمعنى فرض الانتخاب لرئيس من نوع متصرف لقرنين مضيا. مع كلام عن عقوبات وضغوط وملاقاة داخلية شعبية وعفوية مصطنعة... فتركب لنا رئاسة ومعها وصاية وقرون...
لم يركب أي من تلك الرهانات. ولن يحصل على ما يبدو في كل المدى المنظور. فما لم ننتبه إليه، لا بل ما نغفل عنه دوماً، أن مواقيت الدول مختلفة عن توقيتنا. لا عبر خطوط الطول وحسب. بل أيضاً وخصوصاً على خطوط الحسابات والمصالح. فساعة واشنطن لا تمشي على ساعتنا. حتى يكاد يصح فيها أن ألف سنة في زمنها، كيوم أمسنا أو راهننا الذي لم يعبر ولن... هم يستطيعون الانتظار، والانتظار طويلاً. فيما نحن من يموت ويجوع ويتحلل ويتفكك كدولة ووطن وشعب ومجتمع ومقدرات ومقومات حياة وبقاء. هل من رهان لبناني وسط كل هذه؟ فلننتظر ميشال عون غداً. عل وعسى!