القاهرة | صرخات مفزعة أطلقتها فجأة مذيعة «قناة 25 يناير». على الهاتف، كان الخبير الأمني سامح سيف اليزل يتحدث مدافعاً عن الأمن كعادته، وعلى الشاشة لقطات تنقل على الهواء الصدام بين قوات الجيش والمتظاهرين الأقباط أمام مبنى «ماسبيرو» ليل الأحد. وبين الصرخات المتلاحقة، بدا صوت رجولي خافت يحاول تهدئة المذيعة الشابة «خلاص، خلاص». عرف المشاهد لاحقاً أنّ قوات الأمن المختلطة بين الشرطة والجيش اقتحمت مكتب المحطة، وصادرت بعض الأشرطة التي سجلت وقائع المصادمات، خصوصاً مشاهد المدرعات وهي تندفع بسرعة جنونية بين المتظاهرين فيفرون إلى الجانبين. إلا أنّ النجاة لم تكن من نصيب الجميع، ومن بين عشرات القتلى والمصابين بالرصاص، كانت صور مروعة لضحايا لم يكونوا في سرعة الآخرين، فانبعجت أجسادهم تحت ثقل المجنزرات.
في الوقت نفسه، شهد استوديو قناة «الحرة» اقتحاماً آخر. لم يكن ثمة صراخ هنا، بل مذيع حاول الحفاظ على رباطة جأشه وهو يقول للجندي الذي لم تظهر صورته «أنا مصري زيك، مصري زيك»، لم يسمع المشاهد سوى صوت «تكة» البندقية استعداداً للإطلاق، لكنها لم تنطلق، بل اندفع الجنود يفتشون مكتب المحطة في ظل الوصف التفصيلي للمذيع الذي ينقل ما يحدث أمامه للمشاهدين.
لم يكن التلفزيون الرسمي ــ بطبيعة الحال ـــ بحاجة إلى إجراءات مماثلة. ليس التلفزيون طائفياً بطبيعته، لكن دواعي النفاق والانحياز لجانب واحد فرضت الطابع الطائفي هذه المرة. كانت الأخبار تتلاحق على شاشة تلفزيون «ماسبيرو» على النحو التالي: «شهيدان من الجيش في إطلاق نار من المتظاهرين الأقباط»، «المتظاهرون الأقباط يرشقون الجيش والشرطة بالحجارة»، «المتظاهرون الأقباط يحرقون سيارات عسكرية»... تصعيد وتحريض كانا كفيلين بإشعال البلد من أقصاه إلى أقصاه لولا تراث الكذب المعهود لـ«ماسبيرو» في أذهان الجمهور. لم يتغير «ماسبيرو» قبل الثورة ولا بعدها ولا أثناءها، لكن الأصوات الحرة داخله لم تعد تتحمّل. أعرب عدد من العاملين فيه عن سخطهم من الكذب الإعلامي الرسمي. على حسابه على تويتر، كتب المذيع في التلفزيون الرسمي محمود يوسف «أنا العبد الفقير الى الله محمود يوسف، وأعمل مذيعاً في التلفزيون المصري، أعلن تبرّؤي مما يذيعه التلفزيون المصري». وصرّحت الإعلامية دينا رسمي على فايسبوك «مكسوفة إني بشتغل في التلفزيون الحقير ده.. التلفزيون المصري كان بينادي بحرب أهلية بين المسلمين والمسيحيين.. التلفزيون المصري أثبت أنه عبد لمن يحكم». وفي شهادته على الأحداث، يحكي الروائي والمترجم نائل الطوخي عن الناقد عمر شهريار الذي يعمل في مجلة الإذاعة والتلفزيون التابعة لـ«ماسبيرو» أنه كان مع شهريار عندما أعلن وسط مجموعة من المتجمهرين أنه يعمل في التلفزيون، طالباً منهم ألا يصدقوا شيئاً مما يذاع فيه. ويحكي الطوخي عن الارتباك الذي أصاب المتجمهرين نتيجة ذلك.
لكن حبل الكذب قصير. يتراجع «ماسبيرو» تدريجاً عن تحريضه السافر أمام حقائق الأرقام، ويقول وزير الإعلام أسامة هيكل إنّه «لا يعلم من الذي أطلق النار»، موحياً بوجود مندسين بين الأقباط، ومعللاً التحريض الذي مارسه إعلاميو ماسبيرو بأنه «انفعال مذيعين»! تتصاعد أرقام الضحايا من القتلى والمصابين على شريط أخبار «ماسبيرو»، ويتضح دقيقة بعد أخرى أن مأساة كبيرة قد وقعت، مأساة لا يمكن أن تستقيم معها أكاذيب الدقائق الأولى للبث الرسمي. يعلن «ماسبيرو» عن كلمة مرتقبة لرئيس الوزراء، يتأخر بثها إلى الساعات الأولى من صباح الإثنين، ولا يجد التلفزيون ما يبثه في انتظارها سوى لقطات تسجيلية للقاهرة والآثار! ثم ينقل في اليوم التالي قداس كاتدرائية العباسية على أرواح الشهداء وسط حديث معتاد عن «المؤامرة» و«المندسين» و«الفلول» و«البلطجية»، وهي لغة إعلامية كانت هي ذاتها أحد مسببات الثورات العربية.