عادة ما تركّز التربية المدنية والدينيّة على ضرورة طاعة الإنسان للسلطات السياسيّة أو الدينيّة، أكانت السلطة تمثّلها مجموعة، أم شخصٌ يلعبُ دوراً محوريّاً سياسياً أو دينيّاً. وتوصف الطاعة أحياناً على أنّها دليل إخلاصِ المطيع للإنسان المُطاع، أو توصف على أنّها طاعة للفكر أو الإيمان الذي يحمله المُطاعُ (وذلك لتورية حقيقة المطلوب ألا وهو الخضوع للشخص المُطاع). نجادل في هذه المقالة ليس فقط حول أنّ الطاعةَ هي أمرٌ غيرُ واضح إطلاقاً، وإنّما أنّه في أحيان كثيرة (وفي زمننا ربّما في أكثر الأحيان) يكون العصيانُ، لا الطاعة، هو الموقف الأكثر ملائمة للإنسان، ولإخلاصه لإنسانيّته ولله.
إنّ الكثير من التقدّم الفذّ، العامل لخير الإنسان في التاريخ، لم يحصل من خلال الطاعة، بل من خلال العصيان. فعصيان الأفكار السائدة والرأي العلميّ السائد، كان عاملاً أساساً في اكتشاف غاليليه لدوران الأرض حول الشمس، واكتشاف فرويد للّاوعي، وغيرهما من الاكتشافات. أمّا عصيان المسيح للرؤساء الدينيّين وتفسيرهم للكتب الدينيّة، وعصيانه للأفكار المنغلقة السائدة لزمنه، فقد أوصله إلى استشهاده وما تبع ذلك من تأسيس للمسيحيّة كدين. ولا شكّ أنّ الأمر نفسه ينطبق على الأنبياء، فلم يكن موسى مطيعاً لفرعون، ولا محمّد مطيعاً لقبيلته ولا لدينها. ومن جهة أخرى كم من طاعةٍ أدّت إلى دمارٍ وخرابٍ كبيرين في بلاد بكاملها، أليس هذا ما حدث في ألمانيا النازية؟ أليست طاعة الزعماء السياسيّين والدينيّين هي التي تسهم اليوم بشكل حادّ في الخراب العميم الذي نشهده في بلادنا؟
لكن من جهة أخرى، ليس كلّ عصيان لكلّ سلطة هو جيّد بحدّ ذاته.
عصيان الأفكار
السائدة والرأي العلميّ السائد كانا عاملاً أساساً في العديد من الاكتشافات
فإنْ كان الإنسان الذي يطيع دائماً بلا تمييز هو بالفعل عبدٌ لآخر أو آخرين، فإنّ الإنسان الذي لا يَعرفُ إلا أن يعصي هو إنسان يتصرّف انطلاقاً من شهوة تدمير لديه، ولا يبني. ومن هنا ضرورة التمييز والتفكير بماهيّة السلطة، وبماهيّة الفكر الشخصيّ الذي يقرّر الإنسان على أساسه أن يطيع أو يعصي.

السلطة

ليست السلطة أمراً جيّداً أو سيّئاً بحد ذاته، فلكلّ سلطة هدفٌ، وهذا الهدف هو الذي يحدّد إنْ كانت السلطة جيّدة أم سيّئة. ولكن أن نحكم بأنّ شيئاً ما هو «جيّد» أو لا، هو حكم قيميّ يتطلّب أن يكون لنا مقياساً نقيس به الجودة أو السوء. إنّ كاتب هذه السطور يعتبر أنّ المقياس الذي ينبغي أن نقيس على أساسه أهداف السلطة هو: خدمةُ حياة الإنسان الجسديّة والنفسيّة (بالمعنى الواسع لكلمة «نفسيّة» التي نضمّنها حرّيته وكرامته). هكذا فإنّ هذا المقياس مبنيّ على محبّة الإنسان.
كلّ ما يخدم حياة الإنسان الجسديّة والنفسيّة هو جيّد، وكلّ ما يضرّ بها هو سيّء. الاستثناء الوحيد، الذي يبدو لي، هو أن يرضى الإنسان، بشكل حرٍّ، بأن يعرّض حياته الجسديّة والنفسيّة للضغط والتعب، بل أن يضحّي أحياناً، بشكل حرٍّ، بحياته الشخصيّة الجسديّة (وليس بحياة غيره)، خدمةً لحياة الآخرين الجسديّة والنفسيّة، وهذا ما ندعوه الشهادة.
إذاً المقياس هو خدمة حياة الإنسان الجسديّة والنفسيّة. كلّ سلطة تهدف إلى خدمة حياة الإنسان هي سلطة جيّدة وعقلانيّة ويمكن طاعتها بحرّية، وكلّ سلطة لا تخدم حياته هي سيّئة وغير عقلانيّة، وينبغي رفضها وإلغاؤها حيث أمكن. فسلطة المعلّم مثلاً، إذا كانت سلطة تسعى إلى نقل التلميذ من مرحلة اللامعرفة إلى حالة المعرفة، ورفده بالطرق اللازمة للوصول إلى ذلك بحيث يستقلّ التلميذ في النهاية عن المعلّم، هي سلطةٌ عقلانيّة وتُطاع، أي تُقبل بحرّية. ولكن إن كانت سلطة المعلّم تهدف إلى إخضاع التلميذ لأوامر المعلّم ونواهيه، وإلى إذلاله إن أخطأ، أو إلى فرض علاقة تبعيّة عليه، تكون عندها سلطة المعلّم مدمِّرةً للتلميذ، ووسيلةً لإخضاعه لرغبات المعلّم العشواء من تشفٍّ وتحكّمٍ مرضيَّين، أو وسيلةً لدى المعلّم لتحقيق شعورٍ مَرَضيّ بقيمةٍ ذاتيّة قائمةٍ على تبعيّة التلميذ له وعدم استقلاله. سلطة كهذه هي لا عقلانيّة ويجب ألّا تُطاع، بل يجب أن تُرفض وتُعصى وتُلغى لأنّها مدمّرة لنفس وجسد التلميذ (وهي مدمّرة حتّى للمعلّم).
الأمر نفسه ينطبق على سلطة الأب والأم، فهي إمّا خادمة لحياة الأولاد فتطاع أو آسرة وبعض الأحيان مدمّرة وينبغي أن تُعصى. أمّا السلطتان السياسيّة والدينيّة، فعادةً ما تستخدمان سلطتيهما من أجل تثبيت تسلّطهما على أجساد الناس وأدمغتهم وضمائرهم وأفكارهم، بحيث يكون هدفهما التحكّم الذي يشلّ أو يدمّر حياة الآخرين النفسيّة والجسديّة، ولهذا، وفي هذه الحالات، ينبغي عصيانهما، فطاعتهما واجبة فقط إن كانت تهدف إلى خدمة حياة الإنسان.
وإن كان من المتعارف عليه أنّ الديكتاتوريّات هي من السلطات اللاعقلانيّة لأنّها تتحكّم بالجسد والنفس، أو تدمّر الجسد والنفس، فإنّ أشكال الديموقراطيّة التي تهتمّ بحقّ الإنسان بالعيش من دون أن تهتمّ لنوعيّة هذا العيش، أي لا تهتمّ للعدالة الاجتماعيّة التي تؤثّر في جسد ونفس الإنسان، هي أيضاً سلطات لاعقلانيّة ويجب رفضها، وتغييرها. السلطات الدينيّة من جهتها، يمكنها كذلك أن تكون عقلانيّة عندما تهتمّ بالآخرين وتحترمهم، وتسعى إلى أن يكون الإنسان مسؤولاً حرّاً عن جسده ونفسه وفاعلاً في صنع مصيره، وتسعى لتأمين الظروف المؤاتية لنموّه في الحرّية والكرامة، وعندها تستحقّ أن يُصغى إليها، ولكن يمكنها كذلك أن تكون لا عقلانيّة عندما تسعى لتقييد جسد الإنسان وفكره، ولاستتباعه، ولضرب كلّ عمل حرّ وكلّ تنوّع، ولحماية مصالح المتسلّطين السياسيّين والماليّين، ومجموعات محظيّة من رجال الدين، بل وحماية المتحرّشين الجنسيّين من رجال الدين وسحق صوت ضحاياهم، وعندها من الضرورة الإيمانيّة والإنسانيّة أن تُعصى السلطة الدينيّة لأنّها لا عقلانيّة ولا إيمانيّة، ويكون من واجب ومسؤوليّة المؤمنين أن يعيشوا بحريّة كأنبيائهم، ويطيعوا ضمائرهم الحرّة.
السلطة في العمق تعني في جذرها اللاتيني «إنماء» وهذا يعني أنّ هدف السلطة في أصالتها هو نموّ الإنسان الذي «يطيعها». وكلمة الطاعة تعني في جذرها اللاتيني «الإصغاء». وحده الإصغاء الحرّ لسلطة تسعى لإنماء وحماية حياة الإنسان الجسديّة والنفسيّة يمكن أن يقال عنه إنّه إصغاء عقلانيّ، أنّه بالفعل «طاعة». أمّا الإصغاء لسلطة تسعى للتحكّم بالجسد وبالنفس، أو تحمي الجسد وتقتل النفس، فهو خضوع، وتصرّف لا عقلانيّ، ومدمّر لصاحبه قبل أن يكون مدمّراً لغيره.

الفكر الشخصيّ

الطاعة، إذاً، لها معنى فقط إن كانت صادرة بحرّية، عن فكر شخصيّ حرّ، إن كانت إصغاءً حرّاً لسلطة عقلانيّة. وهنا نأتي إلى النقطة الأكثر حساسيّة من ضرورة التمييز بين السلطات العقلانيّة وتلك اللاعقلانيّة، ألا وهي ضرورة التمييز بين «الرأي» الذي لا يعدو كونه خضوعاً للرأي السائد خوفاً من الاختلاف والحرّية، وبين الرأي الشخصيّ بالفعل، والمعبِّر عن فكرٍ حرّ.
الفكر، والرأي الشخصيّ، أمران بالغا الغموض. فقد يقبل الإنسان برأي ويتبنّاه فقط لأنّ هذا الرأي هو السائد في المجموعة التي يعيش فيها، ولكنّه لا يعي ذلك بل يعتبر أنّ هذا الرأي هو «رأيه» هو بالذات، فيدافع بحميّة عمّا يعتبره «قناعته» والذي لا يكون في الحقيقة سوى الرأي المفروض عليه من قِبَل الجماعة التي ينتمي إليها، والتي يخاف مخالفتها لأنّه يخشى أن يخرج عنها ويمارس حرّيته كإنسان (وكلّ إنسان يعيش هذه الخشية شاء أم أبى، وإن كان يمكن لكلّ إنسان أن يتجاوز هذه الخشية ولا يخضع لها).
الإنسان الذي يخاف الخروج عن الرأي السائد، إن أطاع رأي جماعة يخضع لها أو شخص يخضع له، خضوع العبيد، لا يمكن اعتبار طاعته طاعة حرّة صادرة عن ضميره الشخصيّ، بل هي تعبير عن خضوعه العبوديّ. هو إنسان لا يملك قناعة عميقة بموضوع طاعته، ويمكنه أن ينقلب على السلطة التي يطيعها وعلى الموضوع الذي يقبله، ما أن يتغيّر محيطه، ويوجد في جماعة أخرى، وعندها قد يتبنّى «رأياً شخصيّاً» جديداً، ليس سوى تعبيرٍ جديدٍ عن الرأي السائد الجديد.

العقل والتمييز

هكذا، فمن أجل حماية حياة الفرد والجماعة، ونموّ الفرد والجماعة، جسديّاً ونفسيّاً، من الضروري التمييز بين أنواع السلطة، وبين عصيان حرّ صادر عن ضمير حرّ غير خاضع للخوف، وبين عصيان صادر عن علاقة عبوديّة بشخص زعيم ديني أو سياسيّ أو عائليّ، أو علاقة عبوديّة بجماعة سياسية أو دينيّة. لهذا التمييز ضروريّ لأنّنا رأينا جماعات من البشر عبر التاريخ تخضع بشكل عبوديّ لزعيم «روحيّ»، دينيّ، أو سياسيّ، تخضع لسلطة دينيّة أو مدنيّة لا عقلانيّة، تدمّر الإنسان جسداً ونفساً، وتضرب بعرض الحائط كلّ سلطة عقلانيّة.
لكنّ التمييز يحتاج إلى إعلاء شأن العقل عوض مهاجمته بحجج شتّى واهية. إنّ إحكام العقل في جوّ من حرّية التعبير والاحترام للإنسان وللاختلاف الطبيعي بين البشر، وحده يسمح بمقارعة الأفكار، وبإعمال الحجّة، ويفتح إمكانيّة الوصول إلى التمييز المطلوب بين سلطات لا عقلانيّة مدمّرة وأخرى عقلانيّة تسعى للحياة، لنموّ الإنسان جسديّاً ونفسيّاً، بحيث يغدو صاحب رأي شخصيّ، سيّد نفسه ومسؤولاً عن مصيره، ومتعاوناً مع غيره لإرساء سلطات عقلانيّة في المجتمع، ساعياً لنموّ ذاته ولنموّ غيره.
قد يخطئ الإنسان وقد يصيب في تفكيره، وقد تخطئ الأكثريّة وقد تصيب في استنتاجاتها، لكن هذه حال هذا العالم غير الكامل. خيار العقل المحبّ للإنسان والمنفتح، هو خيار الحياة، الخيار الآخر هو خيار التعصّب السياسي أو الدينيّ، وهو وصفة مؤكّدة لكي يغيب العقل، ويضيع القلب، ويضمحلّ التمييز، فتنفلت اللاعقلانيّة على غاربها، ويتمّ تدمير الفرد والأوطان باسْمِ كلّ «القيم السامية» التي يمكن للإنسان أن يستر بها عبوديّته لشخص أو لجماعة دينيّة أو سياسيّة، وتسلّطه على شخص أو جماعة.
إحكام العقل يعني حرّية التفكير، ولكن كيف يمكن ذلك في جوّ تربية دينيّة وسياسيّة تعلّي قيمة الخضوع العبوديّ لآخر، وتسمّيه «طاعة» تدّعي أنّها «واجبة». وكيف يمكن ذلك في جوّ تربية دينيّة وسياسيّة تسعى لإخضاع الضمير الذاتيّ للإنسان، لشخص آخر أو لجماعة، وتسمّي ذلك «تواضعاً»، وتعتبره قيمة سامية إن لم تكن الأسمى؟
* أستاذ جامعي