عقود طويلة وحزينة مرّت على نكبة فلسطين. لم يعد أبناء هذا البلد العربي، من مخيم الشاطئ في غزة إلى الحواجز المضنية عند تخوم الضفة المحتلة، يقيّمون مادياً الأرباح والخسائر لمسار المقاومة ولمآسي الاحتلال، ولكن غيرهم يفعل، ويتوصّل إلى أن انتفاضتهم هي ما يُلحق بعدوّهم الخسارة الأكبر، فيما حلّ الدولتين يُمثل رافعة ثمينة له.هذا ما يظهر من الدراسة المعمقة المعنونة «أكلاف الصراع الإسرائيلي الفلسطيني»، التي أعدها فريق من 9 خبراء لمصلحة منظمة الأبحاث الأميركية «راند» (RAND).
تقوم الدراسة على البحث في الخيارات المتوافرة أمام الجانبين، خلال العقد المقبل، وتأمين معطيات «موضوعية»، مبنية على نماذج رياضية تبحث المعطيات بين عامي 2014 و2014، وتمثّل منصّة «لحوار مثمر في شأن الخيارات المتاحة».

سيناريو «الوضع الحالي» يفترض أن المعطيات الاقتصادية والأمنية تستمرّ على ما هي عليه، ما يعني جموداً في تطبيق مقررات اتفاقات أوسلو الموقعة عام 1993، ونمطاً عادياً لتطور المعطيات الديموغرافية والاقتصادية من دون أي خضات سياسية وأي صدمات أمنية.
واستناداً إلى المؤشرات التاريخية، فإن اقتصاد إسرائيل سيبلغ 439 مليار دولار بحلول عام 2024، أي بزيادة نسبتها 50% تقريباً مقارنة بالمستوى الحالي، أمّا الاقتصاد الفلسطيني، فسينمو إلى 19.9 مليار دولار؛ وهكذا سترتفع حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى 43,300 دولار، و3,080 دولارا على التوالي.
يؤمن حل الدولتين ربحاً لإسرائيل يبلغ 123 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة

هذا الجمود لا يعني بتاتاً أنْ لا تطورات تحصل، غير أنها تبقى أحداثاً عابرة في السياق العام، وذلك على العكس تماماً من السيناريوهات الخمسة ــ أو المسارات بحسب تعبير الدراسة ــ التي يفترض كل منها تغيراً في الستاتيكو القائم.
لكلّ سيناريو تُحدّد الدراسة افتراضات مبنية على التجارب السابقة وعلى الأبحاث الموجودة وعلى مناقشات أجراها معدوها مع خبراء في المجالات المدروسة. ويجري التوصل إلى جداول من الأرباح والخسائر لكل حالة.
أولاً، حلّ الدولتين الذي يقوم على نشوء دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل. ويجري تطوير هذا السيناريو بالاستناد إلى المعايير التي كانت إدارة الرئيس بيل كلينتون قد حددتها للتوصل إلى «السلام»، وإلى رزمة الاتفاقات التي كان قد توصل إليها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت والرئيس الفلسطيني محمود عباس، إضافة إلى مبادرة جنيف. طبقاً لمسار كهذا، فإن الفلسطينيين سيستعيدون السيطرة على مناطقهم بحسب الاتفاقات المعهودة وسيستفيدون من الموارد الطبيعية التي تكتنزها وربما يعود أكثر من 600 ألف لاجئ إلى الضفة الغربية وغزة وفقاً لجدول زمني محدد.
«إن حل الدولتين يُفضي إلى أفضل النتائج الاقتصادية للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، مع العلم أن إفادة إسرائيل ستكون أكبر بالقيم المطلقة» تقول الدراسة. عملياً، سيكسب الاقتصاد الإسرائيلي 23 مليار دولار إضافية، فيما الإفادة الفلسطينية تُقدّر بـ9.7 مليارات دولار. أما معدل الدخل السنوي للفرد في إسرائيل فسينمو 5%، وفي الحالة الفلسطينية سيكون النمو 23%.
وعلى أساس تراكمي، يؤمن حل الدولتين ربحاً لإسرائيل يبلغ 123 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة ــ أي ما يعادل نصف اقتصادها حالياً ــ أما الفائدة على الفلسطينيين فتُقدّر بـ50 مليار دولار، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف حجم اقتصادهم حالياً.
في المقابل، فإن الكلفة المترتبة من جراء إضاعة الفرصة الاقتصادية ــ أي عدم التوصل إلى حل الدولتين والإفادة من الإيجابيات المترتبة ــ فستبلغ 170 مليار دولار للطرفين.
يعرض معدو الدراسة السيناريوات وكأن للفلسطينيين ترف الاختيار

ثانياً، انسحاب إسرائيل المنسّق مع الجانب الفلسطيني ومع المجتمع الدولي، من جزء مهم من الضفة الغربية. ولتطوير هذا السيناريو تستند الدراسة إلى الأبحاث التي أجرتها المؤسسات غير الحكومية الإسرائيلية. وفعلياً، فإن أكثر من 60 ألف مستوطن سيُسحبون من الأراضي الفلسطينية التي تُصبح تحت سيطرة فلسطينية كلية ــ مع العلم أن كلفة سحب هؤلاء المستوطنين ستُقسم بين 75% على عاتق المجتمع الدولي، و25% فقط على إسرائيل. وتدريجاً سيُخفض عدد الحواجز وزخم التدابير الأمنية الإسرائيلية.
طبقاً لهذا السيناريو، فإن العوائد الاقتصادية على إسرائيل تكون متواضعة، فيما الجانب الفلسطيني يستفيد من ارتفاع متواضع بدوره، يبلغ 1.5 مليار دولار، في حجم النشاط الاقتصادي على أن ترتفع حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 8% مقارنة بما إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
ثالثاً، انسحابٌ إسرائيلي غير منسّق من بعض الضفة الغربية، ويقوم هذا السيناريو على تعديل التصوّر السابق واعتبار أن الجانب الفلسطيني والمجتمع الدولي غير راضيَين عن هذه الخطوة. في هذا الإطار، تعمد الدولة العبرية إلى سحب 30 ألف مستوطن فقط من الأراضي الفلسطينية وتتكبد وحدها كلفة إعادة توطينهم، أي بما معدله 850 مليون دولار سنوياً. وعموماً فإن هذه الفرضية لا تعود بالنفع القيّم على أي من الطرفين.
رابعاً، سيناريو تبنّي الفلسطينيين مقاومة غير عنفية لتحقيق أهدافهم الوطنية، أي الاستمرار في نشاطهم على المستوى الأممي، تنفيذ الاحتجاجات غير العنفية إضافة إلى الضغط المستمرّ لفرض قيود على التجارة مع إسرائيل. وهنا يتوصل الباحثون إلى خلاصة غريبة مفادها بأنه نتيجة الضغط الدولي إلى الرد على المقاطعة الإسرائيلية، عبر هدم المنازل وإزالة مباني الفلسطينيين، وإلى زيادة الحواجز وخفض تصاريح العمل ما يؤدي إلى «معاناة فلسطينية». وإسرائيل بدورها ستعاني من جراء المقاطعة وتراجع الاستثمارات وإيرادات السياحة، وسيُسجّل اقتصادها خسارة قدرها 15 مليار دولار مقارنة بما كان يُمكن أن يُسجّله لو مضى على النمط الذي يسير عليه حالياً.
والكلفة المتراكمة خلال السنوات العشر المقبلة ستكون 80 مليار دولار للجانب الإسرائيلي، و12 مليار دولار في حالة الفلسطينين.
خامساً، سيناريو الانتفاضة العنفية التي يُنفذّها الفلسطينيون «وقد تنطلق من غزّة ولكن تمتدّ الضفة الغربية ويُحتمل أن يُشارك فيها لاعبون خارجيون مثل حزب الله في الشمال» تقول الدراسة. يشرح معدوها أن نموذج البحث بانتفاضة كهذه لا يطابقها مع الانتفاضة الثانية التي انطلقت مطلع الألفية، كذلك من الصعب جداً التكهن بخلاصاتها نظراً لتداخل المعطيات فيها. غير أنهم يجزمون بأن «العودة إلى العنف ستكون لها تداعيات سلبية قاسية على الجانبين لدى قياس كلفة الفرص الضائعة». في حالة إسرائيل، فإنّ الأكلاف المباشرة المترتبة على الانتفاضة إضافة إلى الفوائد الاقتصادية الفائتة تؤدي إلى خسارة إجمالية تبلغ 43 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بسيناريو الثبات، وفي الحالة الفلسطينية تكون الخسارة 9.1 مليارات دولار.
من جهة أخرى، تُسجّل حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 10% في إسرائيل و46% في الضفة الغربية وغزة.
أما المعطى الاهم، فهو الخسارة الإجمالية التراكمية حتى عام 2014 التي تتكبدها إسرائيل من جراء الانتفاضة المسلحة، والتي تضعها الدراسة عند 250 مليار دولار (مقسّمة بين خسائر مباشرة وفرص ضائعة)، أي أقل بقليل من حجم اقتصادها الإجمالي في عام 2014.
وفي حالة الجانب الفلسطيني، فإن الخسارة المتراكمة لخيار المقاومة المسلحة سيكون 46 مليار دولار، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد الفلسطيني في نهاية عام 2014.
يُقدّم معدّو الدراسة هذه الخلاصات للأطراف المعنيين على أنها «معلومات شاملة وموثوق بها حول الخيارات المتاحة أمامهم والاكلاف والتداعيات المترتبة عليها». يعرضون السيناريوهات وكأن للفلسطينيين ترف الاختيار والتبضّع من اللوائح المتاحة! ولكن هذا ليس غريباً عن دراسة تدعي الموضوعية، وفي الوقت نفسه تصف عمل المقاومة بأنه «إرهابي».