عند التاسعة والنصف مساءً، أخرجت القوى الأمنية بالقوّة آخر المعتصمين في وزارة البيئة في مبنى العازارية في وسط بيروت. في المقابل، بقي وزير البيئة محمد المشنوق محتجزاً في مكتبه، لا يقبل بمغادرته بمواكبة أمنية، ولا يريد الاستقالة استجابة لأحد المطالب، التي رفعها الآلاف ممن شاركوا في تظاهرة السبت الماضي، باعتباره المسؤول الحكومي المباشر عن ملف النفايات. خطوة «اقتحام» الوزارة جاءت ترجمة فورية للتصعيد الذي هددت به حملة «طلعت ريحتكم» بعد انقضاء مهلة الـ 72 ساعة، وقد نجحت في خطف الأنظار واستولت على المشهد الإعلامي والاهتمام العام.
إلا أن هذه الخطوة لم تكن منسّقة مع المجموعات الأخرى، ما عدا بعض الناشطين في حملتَي «حلّوا عنّا» و»بدنا نحاسب». هذا التفصيل اتسم بأهمية بالغة في تقويم ما جرى، إذ تم توقيت «الاقتحام» في الوقت الذي كانت فيه المجموعات المشاركة في تظاهرة 29 آب مدعوة الى اجتماع عند الظهر لاستكمال النقاش، الذي بدأ قبل يوم، من أجل التوافق على صيغة لتشكيل إطار تنظيمي موحّد يتولى تحديد المطالب وإدارة التحرّكات وإقرار الخطوات.

الإعلان عن قيام إطار
مشترك تحت مسمى «لجنة متابعة لتحرك 29 آب»


وبحسب مصادر معنية، فوجئ المجتمعون بإبلاغهم من ممثلي حملة «طلعت ريحتكم» أنهم اقتحموا وزارة البيئة وسيعتصمون فيها حتى استقالة المشنوق وأنهم لن يكون بمقدورهم المشاركة بالاجتماع. ردّ الفعل الأولي كان غاضباً من هذا التفرّد، والبعض عبّر صراحة عن أن هذه الخطوة تهدف الى توريطهم بما لم يشاركوا في التفكير به ومناقشته وإقراره، والبعض بدا مستاءً من إصرار الناشطين في حملة «طلعت ريحتكم» على إبقاء قبضتهم محكمة على الحراك من دون إشراك المجموعات الأخرى الفاعلة. إلا أن حصيلة النقاش أفضت الى ضرورة مؤازرة المعتصمين والدعوة الى التجمّع خارج الوزارة لتأمين الدعم لهم، حرصاً على استمرار الحراك وزخمه ومنعاً لأي تشتيت أو انقسام تستفيد منه قوى السلطة. لكن، في المقابل، تقرر عدم الرضوخ لهذا التفرّد ومواصلة الاجتماع وبتّ الأمور المطروحة على جدول أعماله، ولا سيما تشكيل الإطار التنظيمي. وفي النهاية، تم الإعلان عن قيام إطار مشترك تحت مسمى «لجنة متابعة لتحرك 29 آب»، وسارع الى إصدار بيانين، الأول أشهر فيه نفسه ومواقفه، والثاني أعلن فيه إدانته لتعرّض السلطة للمعتصمين في وزارة البيئة، معتبراً أن «التعرض لهم هو تعرض لجميع اللبنانيين». ودعا الى النزول فوراً أمام مبنى وزارة البيئة قرب ساحة رياض الصلح حتى خروج جميع المعتصمين فيها آمنين سالمين، وتنظيم أوسع حملة شجب للسلطة وتضامن مع المعتصمين. وهو ما استجاب عدد كبير له ممن احتشدوا حتى ساعات متأخرة من الليل أمام مبنى العازارية وقبالة السرايا الحكومية في ساحة رياض الصلح، حيث أقيم جدار جديد حديدي هذه المرة وليس اسمنتياً، وجرى تحصينه بأسلاك شائكة محكمة تمنع أياً كان من اختراقها إلا بتجهيزات خاصة. وتخلل كل ذلك مناوشات بين المحتشدين والقوى الأمنية وقعت خلالها إصابات بين المحتجين.
إذاً، التصعيد الموعود بدأ أولى خطواته أمس بشكل مفاجئ للجميع. نحو 50 شخصاً من «طلعت ريحتكم» و»بدنا نحاسب» و»حلوا عنا» اقتحموا وزارة البيئة وأعلنوا «عودتها الى الشعب» واعتبروا أنها بداية «العصيان المدني». مصادر الحملة تقول ان هذه الخطوة اتُخذت ضمن حلقة ضيقة جداً من الأشخاص حفاظاً على عنصرَي السرية والمفاجأة. وتم التواصل مع المجموعات المجتمعة في مقر المفكرة القانونية بعدما اكتملت عناصر نجاح العملية، وأبلغوا المجتمعين بما حصل، مؤكدين أنّ الأمر ليس خروجاً عن مسار الحراك وأنّ التنسيق معهم قائم، إلا أنهم لم يعلموهم بهذه الخطوة مسبقاً حفاظاً على الطابع السري والفجائي إذ إنّه بعد السابعة (أي موعد انتهاء المهلة) كانت الوزارة ستتخذ احتياطات لمنع أي تحرّك. ويؤكد أسعد ذبيان، أحد منظمي حملة «طلعت ريحتكم»، لـ»الأخبار» أنّ «المجموعات كانت تعلم أنّ هناك تحرّكاً سيحصل اليوم (أمس) بهدف التصعيد، لكن من دون تحديد الزمان والمكان لمنع أي خرق أمني».
اجتماع مكونات الحراك أمس خلص الى الإعلان عن انضواء جميع المجموعات تحت «حركة 29 آب» وتمّ الاتفاق على تشكيل هيئة عامة للحراك ضمن إطار مفتوح يضم كل الجمعيات والنوادي والحملات والهيئات، مهمتها رسم خطة عامة للحراك. إضافة الى ذلك، اتفق المجتمعون على تشكيل هيئة تنفيذية هي عبارة عن لجنة متابعة لحركة 29 آب تضم الأطراف الأساسيين للحراك ومجموعة قانونيين، مهمتها متابعة العمل التنفيذي اليومي. ويقول عمر ديب، الأمين العام لاتحاد الشباب الديموقراطي، إنّه «تمّ ترك حرية العمل والتحرك لكل المجموعات بالتنسيق مع اللجنة، على أن يُعلن عن الخطوات النوعية، مثل التظاهرات الكبرى وإغلاق الوزارات، من قبل حركة 29 آب». وعلى الرغم من عدم حضور حملة «طلعت ريحتكم» الاجتماع، إلّا أنها أعلنت موافقتها على الإطار المطروح.
كذلك وضع المجتمعون أهدافاً محدّدة للتصعيد، كان من المفترض أن يتم الإعلان عنها أمس. إلّا أنّ ما حصل استدعى تأجيلها الى اليوم على الأرجح. وتشير مصادر الى أن خطة التصعيد تشمل إغلاق مرافق عامة مثل المطار والمرفأ وتحركات في المناطق، وقال بيان لجنة المتابعة (بيان رقم 1) إن التصعيد الأبرز سيحصل بالتزامن مع جلسة الحوار التي دعا إليها رئيس المجلس النيابي نبيه بري في 9 أيلول، حيث ستتم «الدعوة الى اعتصام حاشد يعلن عن مكانه وزمانه لاحقاً، احتجاجاً على انعقاد طاولة الحوار، حوار المحاصصة والفساد والتسويف والمماطلة». ورأت اللجنة في بيانها أن الجواب الأكثر خطورة على مطالبها جاء من رئيس مجلس النواب الممدّد «الذي استغل مناسبة وطنية هامة لإعادة ترتيب صفوف الطبقة السياسية وشركاء المحاصصة، فأتت دعوته لرؤساء اللجان النيابية للحوار خارج الإطار التنظيمي للمؤسسات بمثابة دعوة إلى التوحد في وجه المواطنين والمواطنات، ولا سيما أن جدول أعمال الحوار المقترح غاب عنه أي من الهموم أو المطالب الاجتماعية».
وقالت اللجنة إن جميع الأجوبة الأخرى على مطالب المتظاهرين في 29 آب جاءت سلبية. فبدلاً من أن يستقيل وزير البيئة، اختار أن يداوي عدم مسؤوليته بمزيد من التخلي عن المسؤولية، وذلك بانسحابه من رئاسة اللجنة الفنية لمعالجة النفايات. وبذلك، أكد صحة المطلب بوجوب استقالته وعدم جدارته في هذا الشأن. وحتى الآن، لم يعلن عن توقيف أي ضابط مسؤول عن العنف ضد المتظاهرين. وقد جاء اتهام وزير الداخلية نهاد المشنوق لدولة عربية صغيرة بتمويل الحملة مؤشراً على نياته ورغبته في تضليل الرأي العام والالتفاف حول مطلب المحاسبة. وبخصوص إعادة أموال الصندوق البلدي المستقل للبلديات، بقيت الأمور بمثابة تصريحات مجردة عن أي خطوات عملية، علماً بأن فتح حساب مستقل للصندوق لدى المصرف المركزي يحتاج الى نصف ساعة على الأكثر.