ابتداءً وأساساً، يجب ألا تنظر الى التدخل الروسي في سوريا على أنّه موجّه لخدمتك أنت شخصياً، ودفع أجندتك قدماً، وتأكيد تحليلك ورؤيتك عن الحرب في سوريا. هذه النظرة الرغبوية هي التي أنتجت، منذ بدأت صور المقاتلات الروسية بالظهور، سرديات تتراوح بين أن روسيا قد جاءت كي تدفن الامبراطورية الأميركية وتعلن نهايتها، وبين أنها تهدف إلى إزاحة إيران من موقع «التأثير» في دمشق.
ومن يعتقد أن الحرب «انتهت»، وأن أربعين أو ستين طائرة تقدر على تغيير مسار الصراع بشكلٍ جذري و«حسمه» بسرعة، يشبه من يفرح ويحتفل قبل أن تبدأ الغارات أو يُفهم إطارها السياسي، لمجرّد أن روساً يقصفون في بلاده (الوجه الآخر لهوس البعض بالمخلّص الأميركي وجيشه).
النتيجة الاستراتيجية الأساسية للوجود الروسي في سوريا، قبل كل شيء، هي أنّه قد منع ضربةً خارجية ضدّ النظام، سواء على يد أميركا أو عرب الخليج أو إسرائيل، وهذه حماية لا ترتبط بحجم الوجود العسكري وفعاليته، بل بمقدار الهيبة الدولية التي تتمتع بها روسيا. هذا ما قصده الجنرال الأرفع في «الناتو»، فيليب بريدلوف، حين اشتكى من أن الروس قد خلقوا «فقاعةً» فوق سوريا، لا يمكن للطائرات الغربية العمل فيها الا وهي (الطائرات) تحت رقابة الخصم ودفاعه الجوي. وهذا كان أيضاً محتوى مقال تحليلي في «جيروساليم بوست» يقول إن «حرية الفعل والمناورة» التي كانت لإسرائيل في الأجواء السورية لم تعد موجودة (حين ضرب الصهاينة موقعاً للجيش العربي السوري قرب الحدود أخيراً، ضمن هجوم منسّق مع «الثوار»، كان القصف مدفعياً وبالصواريخ، ولم يجر إدخال الطائرات إلى أجواء سوريا).
في هذا الإطار يجدر التذكير، بلطف، بأن الاتحاد السوفياتي (هو وزمنه) لم يعد موجوداً، وروسيا هي شيءٌ مختلفٌ تماماً؛ ليس على مستوى الايديولوجيا والموقع في النظام العالمي فحسب، بل أيضاً على مستوى القدرات والطموحات والإمكانات. الخطاب الوحيد الذي تعتمده دولٌ كروسيا والصين في توجيه سياساتها الخارجية قائمٌ على مبدأ عدم التدخّل والاعتراف بالحكومات القائمة، وهو منهجٌ قد يكون في مصلحتنا في حالات (خاصة في حقب التمدد الأميركي) ولكنه يستحيل ضدنا في حالاتٍ أخرى. قبل أن يرى البعض أن روسيا جزءٌ من «محور المقاومة»، يجب أن يتذكر أنها تحتفظ بعلاقات كاملة ووطيدة مع إسرائيل، وهي اليوم، فعلاً، في حالة اشتباك مع الغرب، الذي يتحداها في أوكرانيا ويفرض عليها عقوبات، ولكنها وضعية حديثة نسبياً، ولا ضمانة لأن تستمر: منذ سنوات قليلة، كانت روسيا تشارك في فرض العقوبات على إيران، وعلّقت صفقات سلاح لها، وشاركت في قرارات أممية ضد اليمن أخيراً، وهي ما زالت لا تسلّم سلاحاً للجيش السوري تم شراؤه ودفع ثمنه منذ سنوات (فعلاقات روسيا ومصالحها مع الغرب أكبر بكثير منها مع إيران أو سوريا أو غيرها، وكذلك إمكانيات الغرب للضغط عليها).
في الوقت نفسه، فإن فرضية «التواطؤ الخفي» بين موسكو وواشنطن تناقضها الأخبار عن غرف عمليات مشتركة بين روسيا والعراق وسوريا وإيران، وأن الغارات الروسية في يومها الأول (وهذه رسالة) استهدفت مجموعات تتلقى دعماً وسلاحاً من المخابرات الأميركية. ولكن البعض يرى، كالأكاديمي والي نصر، أن روسيا هي الطرف الوحيد القادر على تنسيق حلّ سياسي في سوريا (لأن لها علاقات ومصالح مع كل الأطراف، من إيران إلى الخليج وإسرائيل)، وأن دخولها سوريا هو تمهيدٌ للتفاوض على حلّ، ولكن لا بوادر لذلك حتى اليوم.
حتى نفهم الدور الروسي أيضاً، يجب أن نتخلى عن الكليشيهات والقوالب اللفظية الجاهزة التي تبدو من الخارج كأنها تفسيرية، ولكنها لا تشرح شيئاً، ولا تسمعها الا في الإطار العربي؛ كالكلام عن «تقاسم نفوذ» في سوريا، أو نسج الأساطير ــ منذ سنوات ــ حول «القاعدة الروسية»، والولولة اليوم بسبب «الغزو الروسي». تقاسم ماذا في سوريا؟ الحرب وكلفتها؟ أم أن روسيا وإيران تحتاجان الى خيرات سوريا، أو تغريهما احتياطات غاز طبيعي؟ حين تقيم أميركا شبكة قواعد عسكرية حول العالم، فهذا جزءٌ من استراتيجية كونية، فماذا تريد روسيا من قاعدةٍ في سوريا؟ أن تستخدمها لضرب قبرص في حربٍ قادمة؟ روسيا لا تخوض غزوات وحروباً خارج محيطها الحيوي، ولا هي تطمح إلى منافسة الحضور الأميركي في العالم. لهذا السبب تحديداً، يتحيّر بعض الخبراء في تفسير الدوافع الروسية، فيرجعها البعض الى عوامل نفسية وتاريخية تتعلق بالعلاقة المديدة مع سوريا والهيبة والفخر الوطني، فيما تقول مجلة «تايم» إن بوتين يريد، ببساطة، تقديم حربٍ «رابحة» الى جمهوره بعد تراجعٍ في أوكرانيا. في كلّ الأحوال، فإن غياب المطامع هذا هو ما يستثير الحذر. فبالنسبة الى دولٍ كالعراق وإيران وتركيا، فإن سوريا جزءٌ من مجالها الحيوي، ومن رؤيتها لمنطقتها، وهدف للاستثمار والتبادل، أمّا في حالة دولة كروسيا، فإن سوريا لا تعني ــ بمقاييس السياسة الدولية الباردة ــ إلا رصيداً أو «ورقة»، تُصرف في مكان ثالث (ولكنّ الروس في المقابل، وهم لا يموّلون الحكومة السورية ولا يملكون جنوداً على الأرض، لا يملكون وسيلة ضغطٍ عليها وعلى قرارها السياسي إلا بأن يأخذوا طائراتهم ويرحلوا).
أما النقاش النظري حول «التدخل الخارجي»، فهو نافلٌ في بلدٍ خرجت الأمور فيه، منذ سنوات، من أيدي جميع أبنائه، وابتدأ «التدخّل» فيه منذ 2011؛ وهو نقاش بلا معنى مع أولئك الذين يقوم خطابهم على لوم أميركا والغرب وتعييرهما، لتقصيرهما في قصف دمشق (بل لعلّ في أن يواجه هؤلاء، الذين انتظروا غارات الغرب لسنوات، قذائف روسية، نوعاً من عدالة ما). قد يكون الحلف القائم في المنطقة اليوم انقلاباً حقيقياً في الموازين، أو مؤشراً، بالفعل، على عالمٍ ذي بنية جديدة، ولكن هذا ما يجب استطلاعه بواقعية وتأنٍّ، وستكون له شروطه الخاصة وملامحه التي لم تظهر بعد، ولن نستشف مغزاه عبر نظارة الأمنيات، أو بروباغندا الأعداء، أو النوستالجيا السوفياتية.