انتهت عملية التفاوض بين بغداد وواشنطن على مستقبل الوجود الأميركي في العراق، وباشر الطرفان باللعب في الوقت المحتسب بدل ضائع، علّ الشهرين المقبلين يأتيان بما عجزت عنه الأشهر الماضية. شهران سيمارس خلالهما الطرفان لعبة عض الأصابع، مع ما تحمله من تداعيات دموية: الأميركي سيسعى إلى انتزاع مكاسب، فيما سيتشبث العراقي، بدعم كلّي من إيران، بالانسحاب الكامل. الخلاصة الرسمية حتى اللحظة تبدو معادلة واضحة المعالم: نجاح عراقي في التشبث برفض منح الحصانة لمن يبقى من الجنود الأميركيين بعد 31/12/2011 تحت أي تسمية كانوا، في مقابل قرار أميركي، عبّر عنه الرئيس باراك أوباما بالانسحاب الكامل في هذا التوقيت.
كلام سيد البيت الأبيض الجمعة، في أعقاب محادثة مع المالكي عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة، وإن كان موجهاً إلى الداخل الأميركي على قاعدة تحقيق الوعود الانتخابية بالانسحاب، إلا أنه بدا محاولة للضغط على مؤيدي البقاء من العراقيين، سواء من أعلن رغبته تلك كالأكراد أو من أضمرها مثل كثير من اللوائح المنضوية تحت مظلة القائمة العراقية. وكأنه يقول لهم: تحركوا وإلا فإنني سأرحل وأترككم لمصيركم.
رد نوري المالكي لم يتأخر. جاء سريعاً (غداة كلام أوباما) وحاسماً: لن نشهد أي قاعدة عسكرية أميركية في العراق... ولن يكون هناك أي وجود أميركي. ومع ذلك، لم يقفل المالكي باب الحديث عن بقاء مدربين. قالها صراحة إن «قضية المدربين ستوضع في عقود شراء السلاح، كشيء أساسي. لذلك، سيكون الموضوع سهلاً، لكن على أي قاعدة تكون، هذا هو موضوع النقاش». وكأنه يقول: سأعطيكم مدربين بقدر ما تعطونني أسلحة.
ويبدو جلياً أن الأميركيين يحمّلون إيران مسؤولية تلك النهاية، بدليل السلوك الأميركي حيال طهران خلال الأشهر الماضية. كلام هيلاري كلينتون أمس خير مؤشر: «لبلدان المنطقة، وخصوصاً إلى جيران العراق، نؤكد أن الولايات المتحدة ستقف إلى جانب حلفائها وأصدقائها، بما فيهم العراق، للدفاع عن أمننا وعن مصالحنا المشتركة».
الحديث الجدي عن مستقبل العلاقة مع الولايات المتحدة بعد انتهاء مدة الاتفاقية الأمنية، بدأ فعلياً منتصف العام الماضي، في حمأة المفاوضات لتأليف الحكومة العتيدة. وقتها، وفي خلال إحدى زيارات نوري المالكي لطهران، سئل عما سيفعله إن طلب الأميركيون تجديد هذه الاتفاقية، فكان تعهد منه بـ«عدم التوقيع تحت أي ظرف كان، ما عُدّ في حينه جواز مرور لأبو إسراء لولاية ثانية على رأس الحكومة العراقية»، على ما يفيد شركاء السر في تلك المفاوضات.
الموضوع أعيد طرحه في أوائل العام الجاري. وقتها، تصرف الكل وكأن هذه الاتفاقية لقيطة ويريدون التبرؤ من مفاعيلها. لم يجرؤ أحد، وقتها، على الإدلاء بموقف حاسم من مسألة بقاء قوات أميركية في بلاد الرافدين. أجمعوا على أن قضية مصيرية كهذه تُبت في إطار جماعي يضم القيادات العراقية كلها. كان اجتماع للكتل البرلمانية، فقرار للمالكي بتأليف لجنة عسكرية لتقديم توصيات، على قاعدة أن موضوعاً مختصاً وتقنياً كهذا بحاجة إلى رأي أصحاب الاختصاص، على ما تفيد مصادر وثيقة الطلاع.
مضت أسابيع وجاء رأي اللجنة على النحو الآتي: لا حاجة إلى القوات الأميركية لضمان الأمن الداخلي العراقي، حيث قوات الجيش والشرطة كافية لأداء هذه المهمة. لكن الضباط المشاركين في اللجنة طرحوا قضية الدفاع الجوي، حيث رأوا أن سماء العراق مفتوحة وعرضة للاعتداء، وبالتالي هناك حاجة إلى القوات الأميركية للدفاع عنها.
بالتزامن مع عمل اللجنة، بدأت تتضخم حكاية ميناء المبارك الكبير، الذي تريد الكويت بناءه عند الحدود البحرية الضيقة المشتركة بين البلدين، ما يحرم العراق منفذاً إلى البحر، ذلك أن المساحة التي ستبقى لبغداد بعد بناء الميناء الكويتي ستكون غير صالحة للملاحة، على ما يفيد الخبراء. وجرى التسريب أن الكويتيين باشروا بالعمل على هذا المشروع بتحريض أميركي، في محاولة من قوات الاحتلال للإيحاء بأن العراق مهدد من الخارج، وبالتالي لدفع القيادة العراقية إلى تمديد بقاء القوات الأميركية.
لكن سرعان ما برزت مشكلة على سطح النقاش: المعاهدة المعمول بها لا تنص على إمكان تمديدها، وبالتالي تمديد بقاء القوات بالشروط التي كان معمولاً بها في هذه الاتفاقية بحاجة إلى اتفاقية جديدة، لا بد من عرضها على البرلمان لإقرارها، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية كبيرة لسقوطها نتيجة الرفض الكبير للتمديد بالشروط الحالية.
عندها جرى تغيير عنوان المحادثات: بدل أن يكون تمديد بقاء القوات، وتجديد الاتفاقية الأمنية، أصبح حاجة العراق إلى مدربين أميركيين وحاجة مقارّ البعثات الأميركية إلى حماية. كان اجتماع للكتل البرلمانية في 2 آب في منزل الرئيس جلال الطالباني جرى في خلاله التفويض إلى نوري المالكي إدارة المحادثات مع الأميركيين لبتّ هذا الأمر، وعلى وجه الخصوص عدد المدربين ومدة بقائهم وأنواع الأسلحة التي ستكون بحوزتهم وأماكن انتشارهم والإطار القانوني الذي يحكم وجودهم والمخالفات التي يرتكبونها. ويقول أحد كبار القادة العراقيين إن «أصل التفويض إلى المالكي إدارة مفاوضات كهذه يعني قبولاً مبدئياً بوجود أميركي بعد انتهاء الاتفاقية، ولكن السؤال هو عن الشكل الذي خذه».
وكان المالكي قد قام أوائل تموز الماضي بزيارة لطهران، التي شهدت هي الأخرى نقاشاً في شأن هذا الملف، انقسم فيه المعنيون إلى فئتين: قالت الأولى بالمرونة، على قاعدة أن الأميركي يجد نفسه محشوراً في الزاوية، ولن يقبل بأن ينسحب من العراق ويبقى نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، وبالتالي لا ضرر من التجاوب مع محاولات الغرب في القيام بنوع من المقايضة بين تخفيف الضغط على الأسد في مقابل إبقاء بضع آلاف من الأميركيين في العراق. أما الفئة الثانية، التي حسمت النقاش لمصلحتها، فقالت بعدم وجود مبرر دفع ثمن أشياء قد أصبحت أصلاً بين أيدينا، بمعنى أن طهران قادرة على فرض الانسحاب الكامل وحماية نظام الأسد في الوقت عينه، مشددة على أن المعادلة التي وضعتها القيادة هي «سوريا مقابل الخليج»، لا «سوريا مقابل العراق».
في خلال زيارة المالكي تلك للجمهورية الإسلامية، جرى بحث الملف السوري، ومعه طبعاً ملف الانسحاب الأميركي. كان تأكيد للتعهد السابق للمالكي بعدم التمديد، في مقابل تعهد إيراني بتسهيل حكم رئيس الوزراء عبر إقناع بعض الأطراف التي تسعى إلى تقويض حكمه، بأن تدعمه، على ما تفيد مصادر مطلعة على تفاصيل تلك الزيارة.
وتروي مصادر قريبة من المالكي أن الأخير سئل، بعدها بأيام، عما إذا كان سيقبل بمدربين أميركيين. فأجاب: «لم لا، ولكن بضع عشرات فقط». فقالوا له: وإن لم يوافق الأميركيون؟ فكان رده: «سأرسل قواتنا إلى أميركا للتدرب على الأراضي الأميركية؟ أضافوا: وبالنسبة إلى حماية البعثات التي يحميها عادة متعاقدون مع الإدارة الأميركية؟ فكان الجواب: «هذا أمر تقني محض يحدده الضباط العراقيون». أما في شأن الحصانة، فكان رده قاطعاً: «لن تكون هناك حصانة».
منتصف الشهر الماضي، اتصل نائب الرئيس الأميركي المكلف الملف العراقي جوزف بايدن بالمالكي وأبلغه بوضوح أن أي بقاء لقوات أميركية لا بد أن يُقترن بحصانة شاملة على غرار الاتفاقيات الثنائية التي وقعتها واشنطن مع أكثر من طرف في العالم، بينها اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا. حمل المالكي هذا الطلب إلى اجتماع للكتل العراقية عقد بعدها بأيام، فوقف أحمد الجلبي قائلاً: «لا نريد إعطاءهم حصانة ولا نريد أصلاً قوات». تلاه إبراهيم الجعفري الذي كان له موقف مشابه، وكرت السبحة من بعده حيث تحدث معظم قادة التيارات السياسية المنضوية تحت لواء التحالف المؤقت بالمنطق نفسه. عندها عرض المالكي تأليف لجنة لدراسة الموضوع، فما كان من هؤلاء إلا أن أعلنوا رفضهم لخطوة كهذه على قاعدة أنها من دون جدوى، وأنها ستوحي بوجود قبول مبدئي لهذا الطلب. فكان أن اقترح تأليف لجنة لصياغة الرفض، فكان أن رُفضت هي أيضاً تحت عنوان «لا لجنة ولا من يحزنون».
أعيد النقاش نفسه في خلال اجتماع لقادة الكتل النيابية عقد في منزل الطالباني في 4 الشهر الجاري، جرى في خلاله التوافق على القبول بمدربين لكن من دون حصانة (وهي تتطلب لإقرارها موافقة البرلمان غير الممكنة في ظل رفض التحالف الوطني، الكتلة الأكبر عدداً). اللحظات المفصلية كانت عندما سئل إياد علاوي عن موقفه من هذا الأمر، فجاء جوابه أن موقفه يحاكي موقف المالكي. عندها تدخل نائب رئيس الوزراء حسين الشهرستاني مخاطباً المالكي بما معناه: «إنك تعرف أن المالكي ضد منح الحصانة للقوات الأميركية».
ومع تعثر المفاوضات، وتمترس كل من الطرفين عند موقفه، خرجت حكاية اتهام إيران بالتخطيط لاغتيال السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير، ومعها تسريبات لتفاصيل ما تعرضه واشنطن: إبقاء 6 آلاف مدرب و5 آلاف عنصر أمني لحماية السفارة الأميركية وقنصليتين وثلاثة مراكز لتدريب الشرطة العراقية وعشرة مراكز لتدريب الجيش، مع نحو 2000 دبلوماسي وموظف من وزارتي الخارجية والخزانة الأميركيتين ونحو أربعة آلاف مدني لتقديم الخدمات والرعاية الطبية و3 آلاف مقاول، على أن تكون مجهزة بنحو 50 طائرة عسكرية ومدنية ومروحية.



بغداد نحو استعادة دورها: رؤية لحل الإشكاليات في المنطقة

الحراك العراقي حيال ملف الانسحاب الأميركي من بلاد الرافدين لم يأت مجرداً، بل ضمن «رؤية لحل الإشكاليات في المنطقة» كشف عنها نوري المالكي قبل أيام من دون أن يوضح معناها. غير أن متابعة حراك القيادات العراقية حيال الخارج يمكن أن تعطي فكرة عما كان يتحدث عنه، وخلاصته إعادة الدور المحوري لبغداد.
فإضافة إلى الحديث المتكرر عن وجود ستة مصادر للتسلح غير الولايات المتحدة، كشف الرئيس جلال طالباني عن مساع تبذلها بغداد بشكل ثنائي أو مع الأمم المتحدة لإنهاء الإشكاليات مع دول الجوار، مثل الكويت وإيران والسعودية وتركيا، ولا سيما مسائل الحدود والمياه والديون قبيل الانسحاب الأميركي.
هناك أيضاً إعلان وزير الخارجية هوشيار زيباري عن عزم الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي زيارة بغداد الشهر المقبل لبحث ترتيبات عقد القمة العربية في بغداد في آذار، فضلاً عن عزمه على إجراء اتصالات مع الحكومة السورية لتقريب وجهات النظر.
وكان رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي قد عرض إجراء حوار رباعي في بغداد يجمع إيران والسعودية وتركيا لبحث مشاكل المنطقة. وقال إن «هذه المبادرة تدعو إلى تفاهم دول المنطقة المهمة على تثبيت استقرارها وأوضاعها بما يضمن استقرار الجميع وتجاوز حالة المخاوف المزروعة في كل طرف باتجاه الآخر».
مبادرة أشادت بها إيران، لكنها أثارت جدلاً واسعاً داخل العراق، من حيث جدواها وإمكان الاستجابة لها، وخاصة من السعودية، وذلك رغم تأكيد عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب حسن خضير شويرد، أن «جميع الدول وافقت مبدئياً، ومنها السعودية، على مبادرة النجيفي»، مشيراً إلى أن «بقاء الخلافات مستمرة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، لا يخدم وضع المنطقة ولا يصب في مصلحة البلدين».