نستمع الى عازف الكمان جهاد عقل خلال الأمسية التي أقامها قبل أيام في «قصر الأونيسكو»، فيباغتنا السؤال تلقائياً: هل يُكمن الجمال المنهمر من عزفه، من العمل الموسيقي الذي يعزفهُ، أي من الموضوع الفنّي؟ أم أن هذا الجمال ناتج عن الاستماع الى هذا العازف تحديداً، أي عن الأذن التي تستقبل هذا العمل؟ هل تفرّده وجمال عزفه من حساسيته الشخصية، أم هي القيمة المجرّدة، ولا علاقة لها بالموضوع الموسيقي ولا بذات المستمع، وتشّع من مواضع فكرية وذاتية معاً، ومن أماكن على علاقة بالمهارة المطبوعة بحساسية مفرطة وبخبرات روحية وعاطفية وفكرية تجمع العازف مع موضوعة عزفه والعمل الذي يشتغل عليه.الحركة والتغيير بالغا الشفافية في عزف جهاد عقل، يدمغان بشكل رئيس طريقة عزفه، ويدخلان في تكوينه الإنساني والفني، إلى درجة أنّ من يستمع إليه، يقف حيال عزفه حائراً أو عاجزاً عن إدراك مصدر التناسق والغواية واللعب والعلاقات الداخلة في تكوين العزف نفسه وفي اللعب على حركة الزمن التي هي العنصر الأعمق في عزف عقل. جمال في التعبير الفني ونشدان روحانية خالصة وانسحاق عاطفي، ضد الآلية والقبح كعنصر مقابل، كما يتقابل الأسود مع البيض والليل مع النهار. شجن ورومانتيكية ومشاعر جياشة يمنحها عقل لجمهوره وسامعيه في عزفه ولو عزف النشيد الوطني.

الروح هي العازفة. آلة الكمان أو الفيولون بين يدي عقل حُرّة من الارتباطات الكلاسيكية الميكانيكية الواهية للعزف. عزف عقل يهدف الى التعبير عن الموسيقى ذاتها، إلى درجة أنّ الصمت في بعض المقاطع، يأتي لصالح الصوت.
نسأل جهاد عقل كيف لعازف شرقي أن يلعب على آلة غربية هي الكمان؟ يلعب بالعقل أم بالإحساس؟ يرى عقل أنّ الكمان هي بالأصل آلة الربابة التي نعرف، اكتشفها الغرب إبان دخول العرب الى الأندلس فعملوا عليها، وعلى تطويرها لتغدو آلة الكمان التي نعرف. عمل عليها مونتيفردي الموسيقار الكبير حتى أضحت ملكة الآلات، وأحبّها لأنها القرب الى أحاسيس البشر في حالاتهم المتنوعة وأحاسيسهم الجياشة، وتراوح بين الغضب واللوعة والفرح والحزن وسوى ذلك من المشاعر.

يعتبر أنّ الراحل عبود عبد العال
لم ينل المكانة التي يستحقها

جهاد عقل (1968 ـ بيروت) درس الموسيقى الكلاسيكية في البيت على يد والده أحمد سعيد عقل، ثم تفرّغ لدراسة الموسيقى الشرقية وأنغامها، وانتسب الى الإذاعة اللبنانية عام 1983، وكان حينها العازف الصغر سناً بين عازفي الإذاعة.
عن الحساسية المُلوعة التي تصبغ عزف عقل، يقول بأنها بداية من عند الله ، ومما يعتمل في روحه ونفسه من أحاسيس، وهي على الأغلب حساسية حزينة لأن عقل يعتبر أنّ أصل الأشياء المتفردة والحساسة هو الحزن أولاً لأنه أصدق من السعادة ولأننا نعيش في وجود مُحيّر تكثر فيه الأسئلة مثل سؤال الموت والمصير، وسر الولادة والبقاء، وما الى هنالك... كلها أحجية لا نملك عنها أجوبة، لذلك فتعابير حزننا نابعة من حيرتنا في هذا الوجود.
يقول عقل إنّ الفيولون يستطيع أن ينقل احساسك بالنص وباللحن وبالصوت بتقنيات عالية على آلة واحدة، وهذا سرّ تفرّد الفيولون كما أنه يضاهي احياناً وحسب البراعة في العزف عليه، الصوت الإنساني.
يعتبر عقل أن الموسيقار الراحل عبود عبد العال على الآلة نفسها كان سيداً في مجاله وكان أستاذه. يعتبر أن عبد العال لم ينل المكانة التي يستحقها ولم ينصفه الإعلام كما يجب ولم يُكرّم بعد مماته. عتب عقل على الإعلام يبدو واضحاً في نبرته وحديثه، فهو لا يلتفت الى القيمة العالية للفنان بل يعمل على إعلاء الهامشيين وقليلي الموهبة. يعمل عقل على الظهور الإعلامي والفني بجهوده وحدها وبموهبته التي يحترمها الجميع.
عند عقل تلك الطريقة في العزف التي تترك لقوس الكمان حريته في التنقل صعوداً ونزولاً مع انعطافات حنونة في هذا الموضع وذاك. الأمر يعود بحسب عقل الى كمية الحرية والانفلات من السائد المعروف. هذا لا يعني الخروج على النصوص المكتوبة، إذ يغدو الأمر إساءة لأمانة النص تماماً كما ينبغي للترجمة من لغة إلى أخرى الالتزام بالنص الأساس مع بعض التدخلات البسيطة. تدخل عقل يأتي لجهة حساسيته لا أكثر. يقول: «في عزفي أميل الى الدراماتيكية لأنها تُعبّر عني».
عن أكثر حفلاته التي شعر أنه يُحلّق فيها عالياً بالعزف، ويرفع معه سامعيه، يقول عقل إنّها كانت في دار الأوبرا المصرية عام2011 حين كانت الراحلة رتيبة الحفني تترأس المسرح: «حلّقت عالياً يومها، وحلّق معي جمهور الأوبرا».