في 23 كانون الأول 2014 عقدت جلسة تلزيم أشغال المرحلة الأولى في مرفأ عدلون التي تتضمن إنشاء سنسول رئيسي. كانت الدعوة للمشاركة في المناقصة منشورة وفق الأصول في الجريدة الرسمية بتاريخ 27/11/2014، فضلاً عن أربع صحف يومية في 18/11/2014، وجرى تعليقها على باب الإدارة المختصة أيضاً. وقد وردت إلى إدارة المناقصات خمسة عروض قُبلت جميعها نظراً لاستيفائها الشروط المنصوص عليها.
أما نتائج فضّ العروض، فقد جاءت على النحو الآتي:
ــ عرض مقدّم من المهندس حسن دنش وشركة العالم العربي للالتزامات والإدارة «سوتغ» بقيمة 7 مليارات ليرة.
ــ عرض مقدّم من مؤسسة ميلاد أبو رجيلي ــ تعهدات عامة بقيمة 6.2 مليارات ليرة.
ــ عرض من شركة خوري للمقاولات بقيمة 5.5 مليارات ليرة.
ــ عرض مقدّم من شركة الجهاد للتجارة والتعهدات بقيمة 5.4 مليارات ليرة.
ــ عرض مقدّم من شركة الجنوب للإعمار بقيمة 4.88 مليارات ليرة.
هكذا قرّرت إدارة المناقصات أن يرسو التلزيم على السعر الأقل، أي على شركة الجنوب للإعمار التي يملكها رياض الأسعد. إلا أن وزير الأشغال العامة غازي زعيتر، قرّر سلوك مسار مختلف برغم أن الشركة الاستشارية المكلّفة إعداد ملف الدراسة والكشف التقديري للأشغال المطلوب التزامها أبلغته أن الشركة التي رسا عليها الالتزام قدّمت «أسعاراً متدنية فعلاً وبأقل من 35% من الكلفة التقديرية للمشروع»، علماً بأن طريقة التلزيم الواردة في الدعوة إلى المناقصة هي طريقة تقديم أسعار، لا طريقة المفاضلة، التي قد تستدعي عدم الأخذ بالسعر الأقل بل العرض الأفضل من كل النواحي المالية والإنشائية والإدارية والفنية والتقنية.

التلزيم كان 4.8 مليارات ليرة،
ثم «تورّم» إلى 8 مليارات بعد إلغاء المناقصة وتحويلها إلى استدراج عروض محصور


عمد وزير الأشغال العامّة إلى إهمال ملف تلزيم مرفأ عدلون لأشهر في درج مكتبه في الوزارة، قبل أن «ينفض» عنه الغبار في 16 آذار 2015. يومها طلب من المديرية العامة للنقل البرّي والبحري أن تبلغ شركة الجنوب للإعمار عدم موافقة المرجع المختصّ على التلزيم. وفي 25 حزيران 2015 أصدر زعيتر قراراً رقمه 561/1 لتسمية المتعهدين المدعوين للمشاركة في ملف تلزيم مرفأ عدلون، أي أنه ألغى المناقصة العمومية المفتوحة واستعاض عنها باستدراج عروض محصور، بالاستناد إلى أحكام الفقرة الرابعة من المادة 145 من قانون المحاسبة العمومية «التي تجيز إجراء استدراج عروض باللوازم والأشغال التي قدّمت بشأنها أسعار غير مقبولة».
في الواقع، «توسّع» زعيتر في تفسير عبارة «أسعار غير مقبولة» الواردة في قانون المحاسبة العمومية، فالأسعار غير المقبولة هي تلك التي يكون مبالغاً فيها وفقاً للعروض المقدّمة، لكن أين المبالغة في الأسعار المتدنية بنسبة 35%؟
تشير الإفادة الصادرة عن وزارة الأشغال العامة، بتاريخ 24/12/2014، إلى أن شركة الجنوب للإعمار نفّذت لحساب المديرية العامة للنقل البري والبحري «أشغالاً بحرية تعود لإنشاء سناسيل حماية وبناء أرصفة بحرية بموجب صفقات تلزيم رست عليها فاقت قيمتها ثلاثة مليارات ليرة وهي: تأهيل وتطويل سنسول الصرفند (المرحلة الأولى والثانية)، مرفأ الصرفند للصيادين، بناء أعماق تزيد على المترين تحت سطح المياه، أشغال مرفأ الصيادين في البترون، أشغال مرفأ الصيادين في الجيّة». وتخلص إفادة وزارة الأشغال إلى أن «تنفيذها (الشركة) الصفقات المذكورة جيداً ولم يصدر بحقّها أي تدبير زجري أو أي غرامة من أي نوع كان ولم يتخذ بحقها أي إقصاء عن الاشتراك في صفقات الأشغال، أو دعاوى عالقة تتعلق بتنفيذ صفقات سابقة». هذه الإفادة تعني أن الملتزم قدّم أسعاراً يقدر على تنفيذها ولا يمكن إدراجها في خانة «أسعار غير مقبولة».
تكمن المسألة في عملية الانتقال من صفقة عمومية مفتوحة لكل الشركات التي تستوفي الشروط ومنها تنفيذ أشغال بحرية، إلى صفقة محصورة ببضعة متعهدين يستدعيهم الوزير شخصياً. فلماذا لم تُدعَ كل الشركات التي شاركت في المناقصة العمومية الملغاة، ما عدا شركة خوري للمقاولات؟ وما هي الضمانة لحصول منافسة جديّة في حالة استدراج العروض المحصور الذي تلجأ إليه الإدارات العامة بهدف تلزيم أشغال تقنية ليست متوافرة لدى عدد كبير من الشركات؟
بقراره الرقم 561/1، استدعى وزير الأشغال العامة الشركات الآتية: الشركة المتحدة للإنماء والتعهدات، مؤسسة يامن للتجارة العامة والمقاولات، مؤسسة نزيه بريدي للهندسة والمقاولات، شركة خوري للمقاولات، شركة فرحات غروب. إلا أن الشركات التي قدمت عروضاً مقبولة بلغت ثلاثاً فقط. وجاءت نتائج فضّ العروض في 5 آب 2015 لتكشف الفضيحة:
ــ عرض شركة خوري للمقاولات بقيمة 7.99 مليارات ليرة.
ــ عرض مؤسسة يامن للتجارة العامة والمقاولات بقيمة 8.5 مليارات ليرة.
ــ عرض شركة فرحات غروب بقيمة 8.8 مليارات ليرة.
وقد رسا الالتزام على العرض الأقل، أي على شركة خوري للمقاولات.
المقارنة بين نتائج المناقصة المفتوحة واستدراج العروض المحصور واضحة للعيان. فالأسعار المقدّمة في المناقصة المفتوحة متقاربة بعضها من بعض ومتدرجة، إذ إن الفرق بين الجنوب للإعمار (4.88 مليارات ليرة) وبين شركة خوري للمقاولات (5.5 مليارات ليرة) يبلغ 620 مليون ليرة فقط، والفرق بين شركة الجهاد (5.4 مليارات ليرة) وعرض خوري يبلغ 100 مليون ليرة فقط. هذا يعني أن المنافسة كانت محتدمة، وأن كل متعهد قرّر أن يخفض من نسبة ربحيته من أجل الفوز بالصفقة.
الأمر الأكثر غرابة بين عمليتي التلزيم، أن شركة خوري للمقاولات الفائزة بالصفقة المحصورة هي الوحيدة التي استدعيت من بين الشركات التي شاركت في المناقصة السابقة المفتوحة. وشركة خوري للمقاولات «سقطت» في المناقصة العمومية المفتوحة، إلا أنها فازت بالصفقة المحصورة بعدما زادت قيمة العرض الذي قدّمته بمبلغ 2.49 مليار ليرة. عرضها الأول كان 5.5 مليارات ليرة، فيما عرضها الثاني الذي فازت على أساسه باستدراج العروض المحصور جاء بقيمة 7.99 مليارات ليرة!
فوز شركة خوري لم يعدّ «أسعاراً غير مقبولة» بل سلك سريعاً طريقه إلى التلزيم، فالملف وصل اليوم إلى ديوان المحاسبة، حيث يتوقع أن تتخذ الغرفة المختصة التي يرأسها رئيس ديوان المحاسبة أحمد حمدان القرار، علماً بأن هناك أسئلة حول نفوذ ما لوزارة الأشغال في مجلس شورى الدولة.
قصّة مرفأ عدلون لم تنته بعد
فقد قدّمت شركة الجنوب للإعمار مراجعة إبطال ووقف تنفيذ بعدما تبيّنت لها وقائع الصفقة الجارية، مشيرة إلى قرار وزير الأشغال بإلغاء نتائج المناقصة العمومية صدر «لغايات مبطنة وخبيثة بهدف إلحاق الضرر بالشركة المستدعية وتقديم منفعة خاصة لغيرها من ملائكة الصفقات المعروفين بأسعار أعلى، وتشريع للهدر»، وأنه «مستوجب الإبطال لتجاوزه حدّ السلطة».
ما حصل هو أن وزارة الأشغال خالفت أصول المهلة الممنوحة لها للردّ على المطالعة الطويلة التي قدّمتها الشركة المستدعية، فقد مرّ شهر و26 يوماً (من 22/6/2015 إلى 17/8/2015) على تقديم المراجعة قبل أن تردّ وزارة الأشغال عن طريق رئيس هيئة القضايا بالتكليف القاضي عبد الله أحمد، علماً بأن المادة 77 من قانون مجلس شورى الدولة تقول إنه «يمهل الخصم أسبوعين على الأكثر للجواب على طلب وقف التنفيذ، وعلى مجلس شورى الدولة أن يبتّ به خلال مهلة أسبوعين على الأكثر من تاريخ إيداع جواب الخصم». وبالفعل، مرّ 26 يوماً على انتهاء المهل من دون أن يصدر مجلس الشورى قراره، لا بل إن الغرفة المعنية بهذا الملف، أي الغرفة الثانية التي ترأسها القاضية دعد شديد، قرّرت أن تقبل ملحقاً إضافياً على ردّ وزارة الأشغال وردها قبل أيام خارج المهل القانونية.
المطلعون على هذا الأمر يشيرون إلى أن قبول الملحق الإضافي لا هدف له سوى تأخير صدور القرار، على أمل تصديق الصفقة من ديوان المحاسبة ومن وزير الأشغال قبل صدور القرار، ما يستدعي التذرّع بالحقوق التي تترتّب للمتعهد من أجل الاستمرار بهذه الصفقة بفرق 3.1 مليارات ليرة عن قيمة الالتزام وفق المناقصة العمومية.