اليوم تُعَلَّق البزة المرقطّة المغوارة على الحائط البارد، ويدا القائد وعيناه الدافئتان ترفعانها بعناية الأم بطفلها. إنه الوداع الأصعب، لـ 35 عاماً من توأمة ثياب الحرب والقلب الشجاع والزند الصلب وأخلاق الفرسان. البزة العسكرية للعميد الركن المغوار شامل روكز، حفرت عليها السنين خطوط العرق والتعب والعزّ والعنفوان ولوّنتها دماء مقدسة، دماء الرفاق الشهداء الذين سقطوا إلى جانبه، ومنهم من كان قد رسم اسم شامل روكز وشماً على زنده، كالملازم أول الشهيد جورج بو صعب.
غداً تبقى البزة وحيدة. لن تذهب إلى رومية إلى ورشة الفوج الدائمة، فوج أعاد شامل إحياءه وبعض الملازمين منذ 30 عاماً وأمضى فيه سنين طويلة قبل أن يستلم قيادته عام 2008 ويجعل منه أحد أهم أفواج القوات الخاصة في العالم. غداً لن تزور البزة أطراف لبنان بآليات عسكرية، برفقة زميلاتها بزّات الحزّوري وأمين وغيرهم. البزة على الحائط بينما شامل في ثياب مدنية، يرسم طريقاً جديداً، لمسيرة ثابتة على العهد في حبّ لبنان.
ليس سهلاً عليّ أن أكتب عن شامل، في لحظة وداعه لحبّه الأكبر (بالإذن من كلودين). أحار من أين أبدأ، وأي المآثر عن القائد والصديق والوالد والأخ والابن سَأُخبّر. هل أبدأ بما سمعته من أهالي تنورين وشيتين واللقلوق وما سمعته من سعاد وسركيس وغسان عن يوسف الجد أو رشيد الأب؟ هل أخبركم عن رجال ترتجف الصخور إن مشوا عليها، رحمهم الله، و«يللي خلّف متل شامل ما مات». أو أخبركم عن أم شامل، الست أليدا أطال الله بعمرها، مدرسة في الذوق والرفعة وحسن التربية؟ هل أخبركم عن تلميذ ضابط متميز بكل المعايير، عن قصص أخبرني إياها «ولاد» دورته (1983)، جورج و«دِي دِي» ونزيه والبَسَّامَين العيسى والخوري، وغابي وحيدر، وما أخبرني إياه النقيب الشهيد عماد عبود، عن شامل في ليلة سوداء من ليالي قهر الـ1991، قبل أيام من استشهاده؟
رأيت من بعيد الملازم أول روكز يجول على محور الدوار في 1989، وكان الضباط الأعلى منه رتباً يعاملونه كعميد، ورأيت العميد الركن روكز في عرسال، وفي عينيه شعلة اندفاع ونخوة ملازم أول مغوار. شامل روكز «ضابط الرأس والأرجل»، أرجله أبقته في مقدمة الجنود والضباط تحت الرصاص والقذائف في كلّ معارك الجيش اللبناني منذ 1983، فنال أقدميات قتالية ميدانية وهو برتبة عميد، ورأسه يفهم السياسة والاستراتيجيا، كقائد يرى الجيوش وسيلة لحرية الأوطان وعزّتها وقوتها وحافظة سلمها الأهلي ومواطنيها وحقوقهم.
شامل القائد العسكري المحبوب بين جنوده، المَهَاب والمُحَفِّز والقدوة في الشجاعة. شامل، يعرف معنى الأوامر العسكرية، فينفّذها بحذافيرها ويؤدي مهماته على أكمل وجه، وعلى تمام الواجب، حتى لم ينل عقوبة واحدة في الجيش طوال فترة خدمته. وشامل الإنسان، الذي لم تلوثّه أمراض العصر كالغرور والخفة والانصياع الأعمى والتعصب الطائفي وانعدام القيم، فبقي متواضعاً متماسكاً مليئاً بالحق.
يترفّع دائماً عن صغائر الأمور، ولا يتناول أحداً في غيابه، ولا «يَتَكَبّر» على أحد، والناس عنده سواء من أبسط إنسان إلى أرفع شأن. في بلدٍ، الكلّ فيه ينظّر ويدعي المعرفة في كلّ شيء، لا يقول شامل ما لا يملأ يده منه، ولا يعطي رأياً من دون داعٍ، ولا يدعي معرفة ما يغيب عنه، لأنه يحترف الصمت. مع أنه واسع الثقافة والاطلاع، مجاز في التاريخ وحائز على ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة اللبنانية، وخبر الحياة.
في بلدٍ غارق بالفوضى والشتات، ينظّم شامل كل شيء، حياته عمله وقته قراءاته طعامه... في بلد المحسوبيات و«الواسطة»، لا أحد، حتى أقرب المقربين، يجرؤ على نقاش العميد في إمكانية استعمال نفوذه أو عمله في سبيل «خدمة» من هنا، أو «دفشة» من هناك.
في البلد الذي «يدبر حاله» الجميع فيه، ويُجَّمِعون مصادر الرزق في أكثر من مهنة و«تزبيطة» و«دعمة»، أمضى شامل روكز 35 عاماً ضمن الحدود القصوى لمهنته، ضابطاً لا يعتاش إلّا على راتب المؤسسة العسكرية، بلا ولا «نكزة» من زعيم أو متنفذ أو رجل أعمال.
كنت أسمع بكلمات كـ«رباطة الجأش» والانضباط... ولم أفهمها حتى رأيت شامل ثابتاً واثقاً لا يتخبط في أحلك الظروف.
في المعارك، حكايات شامل روكز تناقلها الجنود والضباط على الألسن بفخرٍ وغيرة الزمالة المحبوكة بالإقتداء. والسيرة ليست عن القوة والشراسة في القتال والشجاعة فحسب. مرة، فوجئ العميد شامل بمجموعة من الجنود الغاضبين يضربون إرهابياً من «فتح الإسلام»، وهم الذين فقدوا زملاءهم على أرض المعركة برصاص الغدر من الحاقدين الإرهابيين. فما كان من العميد إلّا أن أمر بمعاقبة الجنود، لأن الحقد لا يبرّر الحقد، وضرب السجين لا يتناسب مع الأخلاق ومع قوانين الشرف العسكرية ومبادئ الانسانية والقوانين الدولية. هزم شامل المجرم بالانسانية.
قد تبدو سيرة شامل كالأساطير. لكنها بالنسبة لعارفيه ورفاق دربه، حقيقة ناصعة ملموسة لمس اليد والأيام والتجارب. أصيب شامل خمس مرات، فكان وسام الجرحى محفوراً على جسمه، ونجا من الموت مرات كثيرة، أحدها حين دسّ الحاقدون سم الزرنيخ في جسده، بجرعة تقتل حصاناً، إلّا أن العميد تحدى الوهن، وأكمل علاجه بالركض والتمرين اليومي، حتى تغلبت الإرادة على السم.
غداً سنقدم «شكراً» متواضعة، للرجل الذي نرى فيه صورة القائد الحقيقة ـــ الأسطورة، في وقفة رمزية في ساحة الشهداء عند السادسة مساءً. إنه تعبير بسيط عن الرغبة في مكافأة العميد، لكونه القائد الذي نتعطش إليه، النظيف في زمن «الوسخين»، والشجاع في زمن الخائفين. ستبقى البزة المعلقة على حائط شامل روكز كتاباً ناصعاً بتاريخ الجيش ولبنان، لكن شامل لن يخرج من الصورة إلّا ليعود إليها، سياسياً متألقاً يكمل نضاله بالفكر والفعل.
شكراً «سيدنا»...