تسرق الغارات الجوية الروسية وحملات الجيش السوري على جبهات الشمال والوسط السوري الأضواء من الجنوب. ومع أن زخم العمليات العسكرية يتوزّع بين حلب وحماه واللاذقية وحمص، إلّا أن جبهات الجنوب، من القنيطرة إلى مدينتي درعا والشيخ مسكين، لم تهدأ، مع استعادة الجيش زمام المبادرة، من دون الاستعانة بالقصف الجوي الروسي.
مع بداية أيلول الماضي، سجلت المعارضة السورية المسلحة، المنضوية تحت عباءة غرفة العمليات الأردنية «الموك»، انكساراً كبيراً بعد فشل ما سمّي «عاصفة الجنوب»، في خمس هجمات، في السيطرة على مدينة درعا. وما حققته الفصائل المسلحة من تقدّم على جبهة القنيطرة بالسيطرة على سرية طرنجة وتل القبع (تل الـUN) وتل الأحمر المطل على مدينة خان أرنبة، حسمه الجيش في الأيام الماضية لمصلحته باستعادة النقاط التي خسرها وفك الحصار عن بلدة حضر، محوّلاً القرى التي تسيطر عليها الجماعات الإرهابية على حدود الجولان المحتل، كجباتا الخشب وطرنجة والقحطانية والحميدية، إلى مصائد للمسلحين، بالاستهداف الدائم لآلياتهم ومواقعهم وتكبيدهم خسائر في الآليات والأرواح. وكذلك أفشل الجيش والقوات الرديفة له ربط حدود الجولان ببلدة بيت جن وبيتيما وبيت سابر على السفح الشرقي لجبل الشيخ، وبمخيم خان الشيخ في غوطة دمشق الجنوبية الغربية، ومنع ربطها بالحدود اللبنانية لجهة بلدة شبعا على السفح الغربي لجبل الشيخ، تاركاً بيت جن تحت الحصار.
أما على جبهات السويداء، فمنذ فشل الهجوم على مطار الثعلة، غرب المدينة في حزيران الماضي، لا يوفّر الجيش مواقع المسلحين وقوافلهم من الاستهدافات الدائمة، إن من الشرق، قاطعاً الطريق على إرهابيي «داعش» وتوسيع طوق الأمان شرق مطار خلخلة (على طريق السويداء ــ دمشق)، أو من الغرب، بدءاً بخطوط التماس المحيطة بمطار الثعلة وصولاً إلى مدينة بصرى الشام والحدود الأردنية جنوباً، إضافة إلى تثبيت الواقع الشعبي والسياسي الحاضن للدولة السورية داخل المحافظة.
ثمّة ما تغيّر على امتداد الجنوب السوري في الشهرين الماضيين، خصوصاً في محافظة درعا. ولا يقتصر التبدّل على أحوال الميدان واستعادة الجيش زمام المبادرة، بل تعكس أحوال الميدان التطوّرات السياسية المرافقة لصمود الجيش بعد الانخراط الروسي، والتغيّر الكبير في المزاج الشعبي في حاضنة المسلحين، على امتداد الريف الشرقي والغربي لمحافظة درعا، فضلاً عن النزاعات والصراعات التي تعصف بالجماعات الإرهابية.

الأردن و«الموك»

لا ينفصل الواقع الميداني في الجنوب السوري عن مدى الانخراط الأردني في الحرب على سوريا. الموقف الأردني في الجنوب لم يصل حدود الانقلاب الكامل، فـ«الموك» لا تزال موجودة، ولا يزال وزير الخارجية الأردني ناصر جوده من أشد المعادين لنظام الرئيس بشار الأسد، ومحرّضاً أساسياً ضد تغيير الموقف الأردني من سوريا التزاماً بالموقف السعودي والأميركي، على الرغم من محاولات جوده التقرب من الدبلوماسيين السوريين في المحافل الدولية. لكن برقية التهنئة التي رفعها رئيس هيئة الأركان في الجيش الأردني الفريق أول الركن مشعل الزبن إلى الجيش السوري في مناسبة عيد الأضحى، والتي سبقت إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن غرفة التنسيق المشترك مع القوات الروسية في عمان، لا يمكن أن تمرّ مرور الكرام، مضافاً إليها تبدّلات الواقع الميداني والتحوّلات في دور الاستخبارات الأردنية على الحدود الجنوبية.
في الأسبوع الأخير من شهر أيلول، استدعت غرفة «الموك» عدداً من قادة المجموعات المسلحة، ووجهت لهم تأنيباً بسبب فشل الهجوم على مدينة درعا، على الرغم من الإمكانات المادية والعسكرية التي تم رصدها لهم. وتتوافق معلومات أكثر من مصدر أمني سوري معني في الجنوب مع ما نشره المسلحون على صفحاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن أن «الموك»، بعد فشل «عاصفة الجنوب»، خفضت دعمها لعدد من الفصائل المرتبطة بها، وقطعت الرواتب والمعونات عنها، في ظلّ حملة اغتيالات واسعة لعددٍ من كوادر «الحر» و«النصرة». ويروّج الأردنيون أن «الموك» اتخذت قراراً وأبلغته للإرهابيين المدعومين منها، بوقف الهجمات ضد مواقع الجيش السوري، إلا أن المعلومات الميدانية تؤكّد التخبّط الأردني بين استمرار الهجوم على الجيش وتنفيذ إجراءات تصعّب على المجموعات المسلحة الاستمرار في الحرب. وتردّ مصادر دبلوماسية سورية رفيعة المستوى الترويج الأردني إلى «محاولة إرضاء الجانب الروسي، فضلاً عن امتصاص الانقسام الحاصل على مستوى الجيش والاستخبارات والخارجية»، إذ سبق للزبن أن عبّر قبل عامين، خلال مؤتمر عالمي لرؤساء أركان جيوش حلف «الناتو» ودول خليجية، عن امتعاضه من الخطة السعودية لإسقاط الجنوب السوري، لـ«ما يشكّله الأمر من خطر على الأردن»، مع تأكيد المعلومات السورية لضغوط تمارسها رئاسة الأركان الأردنية لوقف دعم الجماعات المسلحة في مقابل الضغط السعودي للاستمرار في القتال. وتقول المصادر الأمنية إن «مشكلة الأردن ليست فقط في إرهابيي داعش الموجودين على الحدود الشرقية مع سوريا والعراق فحسب، بل حتى في إرهابيي النصرة، لما لهم من امتدادات في الداخل الأردني، على الرغم من ارتباط عددٍ من قادة النصرة في الجنوب بالاستخبارات الأردنية بشكل مباشر».
قبل عشرة أيام، حشدت الجماعات المسلحة في محيط قرية خربة غزالة حوالى ألف مسلح مع عددٍ كبيرٍ من الآليات، في محاولة أخيرة لقطع طريق درعا ــ دمشق وفرض الحصار على المدينة، بالتزامن مع حشد في محيط بلدة الصنمين لشنّ هجومٍ من محورين، بعد اجتماع في «الموك» حضره للمرة الاولى مندوبان عن «النصرة». إلّا أن الاختبار الأوّلي أثبت جاهزية للجيش في خربة غزالة وقدرته على صد الهجوم، ما دفع بـ«الموك» إلى التراجع عن العملية. وبدل ذلك، شنّ الجيش هجوماً مضاداً استعاد من خلاله السيطرة على حي المنشية في درعا البلد، ووصلت قوات الجيش من منطقة سجنة إلى محور «كازية المصري»، الذي يبعد عن الجامع العمري الذي انطلقت منه شرارة الحرب السورية حوالى 1200 متر، وبات الجيش على بعد 500 متر عن معبر الجمرك القديم مع الحدود الأردنية.

وصلت صواريخ «تاو» إلى «النصرة» في قرية محجة قرب أوتوستراد درعا ــ دمشق


كذلك تقدّم الجيش نحو بلدة الشيخ مسكين من مقدمة اللواء 82، وبدأ بالإعداد الميداني لاستعادة البلدة أو عزلها. وتردّد أن الأردن وعد الروس باعتبار «النصرة» تنظيماً إرهابياً تمهيداً لرفع الغطاء عنها في الجنوب ومحاولة استيعاب عددٍ من الفصائل في إطار المصالحات مع الجيش السوري، من دون أن تظهر حتى الآن نية الطائرات الروسية القيام بعمليات قصفٍ في الجنوب، علماً بأن عدداً من الخبراء الروس قاموا باستطلاع مطار خلخلة لدرس احتياجاته في حال تقرّر البدء بالعمليات الجوية في الجنوب. إلّا أن مصادر عسكرية تؤكّد أنه «لا حاجة حتى الآن إلى الطائرات الروسية، ولدينا بنك أهداف كامل، وتقوم الطائرات السورية بتسديد ضربات ناجحة». وأشارت معلومات أمنية أخرى إلى أن عدداً من صواريخ «تاو» التي سلمها الأردن إلى المجموعات «المعتدلة»، لا سيما «جيش اليرموك»، وصل إلى أيدي «النصرة» في بلدة محجة المطلة على الطريق الدولي. ولا يمكن إغفال سلسلة إجراءات قامت بها قوات حرس الحدود الأردني، بمنع المسلحين من الدخول إلى الأردن ووقف علاج الجرحى، إذ أكّدت المصادر أنه في الشهر الحالي بات رسم الدخول للعلاج في الأردن يتجاوز 750 ألف ليرة سورية، وبعض الجرحى سمع على الحدود الأردنية كلاماً مفاده أن العلاج في المستشفيات السورية «أرخص»!

استرضاء إسرائيلي للروس

وفي مقابل التخبّط الأردني، يبدو القرار الإسرائيلي باعتبار «النصرة» تنظيماً إرهابياً، تماشياً مع الدور الروسي الجديد، مؤشراً على تراجع إسرائيل في مستوى الدعم العسكري للجماعات المرتبطة بتنظيم «القاعدة» مع الاستمرار في التشغيل الأمني، بعد سنوات من الدعم العسكري واللوجستي وحتى الميداني، عبر استهداف مواقع الجيش السوري بالنيران الإسرائيلية المباشرة. وبحسب معلومات متقاطعة من داخل الجولان المحتل وأخرى من مصادر أمنية سورية ولبنانية، فإن إسرائيل أوقفت في الأيام الماضية استقبال جرحى المجموعات المسلحة من «الغرباء»، وتابعت الحفاظ على الدعم المحدود للمسلحين من القرى الحدودية.

صواريخ دفاع جوي في الشمال

من الجنوب إلى الشمال، يبدو الموقف التركي أكثر وضوحاً من الموقف الأردني في استمرار مواجهة الجيش السوري والعملية الجوية الروسية، عبر زيادة الدعم للمجموعات الإرهابية المرتبطة بالاستخبارات التركية وإدخال عددٍ من المسلحين الآسيويين إلى الشمال السوري، لا سيما في جبهات اللاذقية وإدلب وحماه. وبحسب معلومات من مصادر أمنية سورية، فإن تركيا كانت قد سلمت المسلحين في الشمال منظومات مضادة للطائرات قبل حوالى أربعة شهر، أي قبل بدء العملية الجوية الروسية، من دون أن يظهر لها أثر حتى الآن في التصدي للطائرات الروسية. إلّا أن مصادر أخرى أكّدت أن القوات الروسية تتوقّع أن يتمّ استهداف مروحياتها بصواريخ مضادة للطائرات، مع وجود صعوبة في استهداف الطائرات القاذفة الحديثة من دون وجود منظومات كاملة، بسبب قدرتها العالية على الارتفاع والمناورة. وبحسب معلومات أخرى، فإن السعودية وتركيا في صدد الحصول على منظومات روسية مضادة للطائرات من نوع «سام ــ 8» و«سام ــ 9» من مخازن الجيش الأوكراني التابع لحكومة كييف المناوئة لروسيا، لتسليمها للإرهابيين في الشمال السوري.




المصالحات والتغيّر في المزاج الشعبي

انعكس صمود مدينة درعا، ومن ثمّ استعادة الجيش زمام المبادرة، تغيّراً كبيراً في المزاج الشعبي في قرى ريف محافظة درعا. وبدأت في الأسابيع الماضية «ورشة» مصالحات في عددٍ من القرى، لا سيما داعل وطفس وإبطع وإنخل والمسيفرة وصيدا والغارية، مترافقة مع تسليم عددٍ لا بأس به من المطلوبين أنفسهم للجيش السوري، وبدء المفاوضات بين فصائل محلية من المعارضة المسلحة والأجهزة الأمنية السورية. وانعكست الأجواء الجديدة مع بدء تمرّد أهالي القرى على المسلحين الغرباء والتكفيريين، ولا يمرّ يوم لا يسجّل فيه اشتباك بين أهالي البلدات ومسلحين من «النصرة». وسجل الأسبوع الماضي مقتل أربعة عناصر من «النصرة» في داعل على أيدي أبناء البلدة، وفي بلدة صيدا وقع اشتباك بين الأهالي و«النصرة» بعد محاولة الاخيرة منع الأهالي من إقامة عرس «حوراني»، كذلك عُثر على جثث لمسلحين غرباء في بلدة أم المياذن، قرية المعارض هيثم المناع، وفي مساكن صيدا. وبحسب المعلومات، فإن نداءات الاستغاثة و«الفزعة» التي طلبها المسلحون لمؤازرتهم أثناء تقدّم الجيش في الشيخ مسكين لم تفلح في حشد أحد من القرى المجاورة.