رُبّ ضارة نافعة. هكذا يمكن اختصار المحصلة التي خلصت إليها أزمة الجلسة التشريعية المزمع عقدها اليوم. ذلك أن ما انتهت إليه الأمور، يؤكد تماماً نظرية التفاعل بين البشر، لجهة أن كل أزمة تحمل مخاطر، كما تحمل فرصاً. أزمة جلسة 12 تشرين الثاني 2015، حملت خطر انفجار الوضع الهش القائم، أو انهياره لا فرق.
والتسوية التي أقرت، قد تحمل فرصة لمعالجة الوضع الراهن برمته. لا على همة الجلسة في حد ذاتها. ولا بجهد المشاركين أو المقاطعين اليوم. بل بما يمكن أن يكون بداية لعبة «بازل» بدأت تتراكب قطعها تدريجياً، بدءاً من قطعة المجلس اليوم، أو من جلسة الشغل على القطعة كل يوم.
قطع بازل الحل الذي يؤمل أن يكون قد بدأ تركيبه أمس، يمكن تعدادها وإجراء جردتها الأولية كالتالي:
أولاً، ظهرت القطعة المسيحية واضحة. هي تلك التي صقلتها معاناة أطراف الحرب ونضالات السيادة وتضحيات الزمن الصعب. حتى صارت أقوى من نزعات ونزاعات. صار ميشال عون وسمير جعجع، ومعهما باقي الحلفاء المسيحيين، وتحت رعاية بكركي، صار الجميع أمام واجب بلورة طروحات إيجابية. أمس اكتشف هؤلاء أن لديهم فعلاً حق النقض في النظام والدولة. وهو مكتسب ومضمون ومؤكد. لكنهم اكتشفوا أيضاً أن ما ينقصهم هو واجب المبادرة. فهو ما يبني السلطة والوطن. تقول معلومات القنوات المكوكية بين الرابية ومعراب، ان هذا الاكتشاف سيترجم بالتأكيد قريباً، توافقات مسيحية على ما هو أثمر من الرفض. بدءاً بقانون الانتخابات، وصولاً، كما يأملون، إلى قانون أصول التعاطي السياسي بين المسيحيين ضمن النظام اللبناني، كما بينهم وبين الآخرين.
ثانياً، هي القطعة السنية أيضاً قد ظهّرتها أزمة جلسة اليوم. هي قطعة مركبة أولاً بين بيروت والرياض، حتى إشعار آخر. غير أنها مشدودة عند خطوط النهايات، إلى ميثاقية الوطن دوماً. حسناً فعل سعد الحريري، حين بادر هو إلى طرح أفكار الحلول. لا لأنه دخل في سباق مع الشيعية السياسية، على من يظهر نفسه في موقع الأكثر حرصاً على المسيحيين وفلسفة الوطن. بل لأن أخباراً بلغته ربما عن نقاشات مشروع الجنسية. في تلك الجلسات، وبعيداً عن نظر الحريري وفريقه وفكره وفكرته ربما عن لبنان، كاد بعض ممثلي الحريرية السياسية يسقط السنية السياسية في زمن ما قبل «لبنان أولاً». ففيما كان المطروح من المشروع، محصوراً بكيفية استعادة لبنانيين غادروا وطنهم، إلى هويته. ذهب بعض المتحدثين باسم الحريرية إلى مشروع مناقض، عنوانه كيفية إضافة غير لبنانيين سنة، من الجوار إلى الفكرة اللبنانية. هكذا، ومن دون علم الحريري ولا نيته أو إرادته قطعاً، كاد بعض ممثليه يسقط عنه لا شعار «استقلال 2005» وحسب، بل حتى مبدأ استقلال 1920. وهو ما نجح الحريري بتخطيه وقلبه. فبدا في موقفه وموافقته على قانون الجنسية، «زي ما هو»، ومن قانون الانتخاب ومن الجلسة، قطعة أخرى مصقولة لتتلاءم مع بازل الحل الميثاقي المأمول.
ثالثاً، كانت القطعة الشيعية الأكثر لغزاً وتعقيداً أمس. فهي بدأت مجزّأة بلورية في ذاتها بين أوجه أربعة على الأقل: وجه نبيه بري في موقعه رئيساً للمجلس، متمسكاً بورقة الدستور وتشغيل آخر مؤسساته المتحللة. مقابل وجه نبيه بري الطرف في صراع السلطة منذ ثلاثة عقود، وصاحب نظرية «إما لا محاصصة إطلاقاً وإما عالسكين يا بطيخ». ثم وجه ثالث هو وجه حزب الله، مستودع الوجدان الشيعي في فلسفة الوطن وشراكته وغبن الطائف والطرح المشروع حول مؤتمر تأسيسي بعد ربع قرن على ذلك التطبيق الذي كان آنياً ومرحلياً، لمبدأ الميثاقية. وأخيراً وجه حزب الله المقاومة، في معركته الشاملة، من اسرائيل التي تبحث عن مكان لرد ضربة التسوية النووية، إلى «داعش» وأخواتها التي تدأب لتسوية كل ما هو إنساني مع الأرض أو تحتها... من هذه الأوجه الشيعية السياسية الأربعة، انبثقت أمس قطعة ثالثة متآلفة مع موزاييك الميثاقية اللبنانية الهشة: في وجه من ميداليتها عودة بري عن حافة الهاوية، التي لم يردها ربما ولم يختر الرقص عليها. وفي الوجه الآخر من الميدالية نفسها، دعوة السيد حسن نصرالله إلى حل لبناني شامل متكامل: رئاسة، وحكومة، ومجلساً وقانون انتخاب... وبين بنود هذه آفاق ربما على مشاريع بنيوية ونظامية أخرى، باتت ضرورة لردم الهاوية نهائياً، بدل احتراف البقاء أحياء على حفافيها.
كانت لا تزال هناك أمس قطعة خامسة. من النوع الشفاف حتى اللامنظور. هي القطعة الدرزية. اكتفت بدور المراقب. لا المتفرج. تنصح، ولا تفضح. تحاور، لا تناور. توحي بأنها امتداد لكل قطعة، وانقطاع عن كل منها. حتى ساعدت، مثل بحصة الخابية، على تظهير البازل، في تسويته الراهنة.
يحلو لبعض خبثاء السياسة اللبنانية الفعلية، أو بعض عارفيها بحق، أن يرددوا أن أكثر القطع المتراكبة أمس ثباتاً، كانت تلك المتدحرجة قبل ساعات من اتفاق ساحة النجمة، من مطار كويرس صوب حلب وما بعد ما بعد حلب. قطعة، قد لا تكون ضرورية لرسم البازل اللبناني المقبل... لكنها قد تكون مساعدة ومفيدة.