«إن هدف الاشتراكية الحقيقي هو تخطّي مرحلة التوحّش في مسيرة التطور الإنساني»ألبرت آينشتاين

ما هو البرنامج الاقتصادي الذي يشد أنظار العالم إليه؟ هو ليس برنامج أي من المرشحين الأميركيين للرئاسة، ولا إحدى وصفات صندوق النقد الدولي، التي كانت في يوم غير بعيد تهز العالم لا احتراماً وإعجاباً، وإنما خوفاً ورعباً، ولا هي أي من الخطط الأوروبية وغيرها، بل إنها الخطة الخمسية الثالثة عشرة للحزب الشيوعي الصيني، التي ستعلن بشكلها النهائي في آذار 2016. هذا كله يحصل بعد سنوات عديدة على اعتبار الخطط الخمسية من «أنتيكات» التاريخ.

في موازاة ذلك، ما هي الكلمة من الأكثر بحثاً حالياً على الشبكة العنكبوتية في معجم وبستر؟ هي ليست الديموقراطية ولا الرأسمالية، بل هي الاشتراكية. اليوم بعد حوالى 25 عاماً على إعلان انتصار الرأسمالية بعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، عادت الاشتراكية، على الأقل في عقول الناس وقلوبهم، لتنتصر على الرأسمالية وتبدو أكثر توافقاً مع الديموقراطية من الرأسمالية نفسها.
الرأسمالية نفسها الآن في مأزق، بل هي في مأزق على المستوى المادي، إذ إنها لم تعد قادرة على إنتاج الرفاه الاقتصادي للجميع.
أزمة الرأسمالية ثلاثية الأبعاد: الإنتاج الضائع والتوزيع غير المتساوي والعجز الديموقراطي

تاريخياً، في الفكر الاقتصادي، لم يكن ماركس الوحيد المتشائم حول مصير الرأسمالية، بل شاركه في هذا التشخيص كل من جون ماينارد كينز (الذي أفكاره أنقذت ولا تزال تنقذ الرأسمالية) وجوزيف شومبيتر صاحب فكرة التدمير الخلاق الشهيرة. أما اليوم، فيبدو أن الجمود الطويل الأمد (secular stagnation) يتحكم بالاقتصادات الرأسمالية المتقدمة، وحتى بالاقتصاد العالمي ككل، إذ يؤكد الاقتصاديان البارزان لورانس سامرز وبول كروغمان على أنها سمة رأسمالية ما بعد أزمة 2008. ويعزو بعض الاقتصاديين الأسباب الى ضعف الطلب العالمي وعدم التناظر بين الادخارات والاستثمار والآثار السلبية للتطور التكنولوجي. وإذا لم تعالج، فإن الاقتصاد العالمي مرشح للبقاء مدة طويلة في هذا الوضع مؤدياً إلى أن يبتعد شيئاً فشيئاً عما كان يمكن إنتاجه لولا الأزمة، فناتج منطقة اليورو مثلاً لا يزال اليوم 15% أقل مما كان يفترض أن يكون عليه، وبهذا يمكن حساب مدى تأثير الأزمة، واستمرارها الآن على شكل الجمود، على مقدرة الاقتصادات الرأسمالية على استدامة تحقيق الرفاه الاقتصادي.
بالإضافة الى الأزمة الاقتصادية، يحصل اليوم تفكك التوأمة المزعومة بين الرأسمالية والديموقراطية، التي حاول ميلتون فريدمان، أبو مدرسة شيكاغو المتطرفة والتي خرجت عشرات الاقتصاديين الذين بشروا بالنيوليبرالية في أنحاء العالم، أن يربطهما مصيرياً وأساسياً. المفارقة، أن أول من فك هذا التحالف هم «صبية شيكاغو» أنفسهم، الذين عملوا مع أعتى الأنظمة الديكتاتورية بعد انقلاب 1973 في التشيلي.
جاء في ظل الربط بين الرأسمالية والديموقراطية، بعد انتهاء التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، استسلام بلدان العالم أمام العولمة، التي صورت للناس على أنها ليست القدر المحتوم لمحاولة الرأسمال البحث عن الأسواق بغاية الربح، كما أكد البيان الشيوعي في عام 1848، بل على أنها تطور محايد ناتج من التكنولوجيا ستدخل الجميع في عالم القرية الواحدة وإلى ما هنالك من خرافات طوباوية. وكان لتعميم الإنترنت ومن ثم الأدوات الإلكترونية المصاحبة له ليوهم أي مخبول أنه يمتلك العالم. لكن الرأسمال في النهاية أكد منطقه وأصبحت الرأسمالية المالية المعولمة تمثل سيطرة القلة ليس فقط على الدخل والثروة، بل على السلطة السياسية، ما عزز من فقدان الترابط بين الرأسمالية والديموقراطية وبين العولمة والعالم المفتوح أمام الجميع. وبهذا تصبح الأزمة الرأسمالية الحالية أزمة ثلاثية الأبعاد: في الإنتاج الضائع وفي التوزيع غير المتساوي بشكل كبير للدخل والثروة وفي العجز الديموقراطي.
في هذا الإطار، يمكن رؤية هذه الأزمة بوضوح تام في أوروبا. فالمشروع الأوروبي الذي يتغطى برداء الديموقراطية يكشف عن حقيقته اليوم، فكما حدث في اليونان، تجري في البرتغال محاولة لعكس نتائج الانتخابات الأخيرة، التي أعطت أحزاب اليسار الأكثرية، وهذه المحاولة مدعومة من الأسواق المالية لمنع التغيير في البرتغال، التي تعاني من التقشف المفروض عليها من قبل مؤسسات اليورو. إن محاولة رفض نتائج الانتخابات جاءت لأن اليسار يريد أن يحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبرتغاليين، فاتفاق الحزب الاشتراكي مع الحزب الشيوعي وكتلة اليسار حول الحكم يتضمن رفع القدرة الشرائية للعمال واستعادة وتقوية حقوق العمال ووقف التخصيص، بالإضافة إلى تخفيف العبء الضريبي على أصحاب المداخيل المتدنية والفقراء. وهذه الإجراءات كلها تذهب ضد فلسفة التقشف ومصلحة الرأسمال الذي يحاول اليمين البرتغالي ومؤسسات اليورو الدفاع عنها في ظل تزايد الأزمة الاقتصادية.
إذاً، لم تعد المسألة كما كان يصور في السابق أن منع الشيوعيين، في إيطاليا مثلاً، من الوصول الى السلطة هو ضمن ضرورات الحرب الباردة، إذ إن محاولات المنع والابتزاز هي الآن مرتبطة مباشرة بحماية مصالح الرأسمال على حساب المجتمع.
إن شعوب اليوم لم تعد تنطلي عليها أسطورة الأسواق الحرة لأن مصالحها تتناقض معها، وهي مستعدة لتبني الاشتراكية، التي بدورها ستأخذ أشكالاً مختلفة. ولكن في زمن سيطرة القلة وعبث الإرهاب والضياع الجماعي والفردي، ستكون هذه الاشتراكية مبنية على العلم والتجربة لضمان استدامة تطور القوى المادية والتكنولوجية، وفي الوقت نفسه، ستكون بمثابة إيمان جديد يعطي الأمل للبشرية بالخلاص من سلطة المال كما لاحظ كينز عند زيارته الاتحاد السوفياتي في عام 1925.