غزة | الساعة الثالثة فجراً، الشمس لم تشرق بعد. استعد الصياد محمد بكر وشقيقه أحمد لركوب البحر كالمعتاد. هيّآ شباكهما والطعم. «يتزوّد» محمد بالماء وببعض الأطعمة الخفيفة، فالرحلة قد تستغرق وقتاً طويلاً. ابتعد الشابان ثلاثة أميال، بعد إبحارٍ دام ربع ساعة، على الأقل. يبثّ محمد خوفه لشقيقه، إن تقدّموا أكثر من الأميال الثلاثة. فالزوارق البحرية الإسرائيلية ستطلق النار عليهما، كما حدث الأسبوع الماضي.
أما أحمد، فيريد أن يغامر في قطع المسافة. «الواحد طالع حاطط روحه على كفه، بدنا نغامر. لازم نفوت أكتر عشان نعرف نصطاد»، يقول أحمد، مضيفاً «التعب بيروح عالفاضي، أنا بدي إرمي الشبك واتركو فترة طويلة في البحر ساعات ... يعني إيش بدو يطلعلي فاضي. على الأقل حق البنزينات نجيبهم».
أما محمد الرافض تجاوز الأميال الثلاثة، فيفكر من منطلق آخر. «ما هو اتفاق تهدئة وصار، وطلبات الصيادين ولا حد مطلع النا، هو لازم حد يموت فيها ولا يغرق بعد ما يطخوا علينا وقتها حد بطلع علينا؟ بنقول خلينا هان بركي ربنا بيرزقنا هنا». والأميال الثلاثة هي المسافة المسموحة للصيادين في الوقت الحالي، وتجاوزها يعني إطلاق الزاورق البحرية الإسرائيلية النار عليهم، وإعطاب مراكبهم الصغيرة. هذا السيناريو المعتاد إلى جانب اعتقال الصيادين، أيضاً مصادرة مراكبهم وتسليمها إليهم بعد سنة على الأقل. وبعد توقيع اتفاق التهدئة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل عقب الحرب الأخيرة، كان من بين بنود الاتفاق السماح للصيادين بالصيد لمسافة ستة أميال، لكنهم يرون المسافة غير كافية. يوضح زكريا بكر، وهو المتحدث باسم «لجان العمل الزراعي»، أنه من مسافة ثلاثة أميال حتى ستة أميال بحرية، فإن الأرض تحت البحر «تكون ضحلة ورملها عال، وليس فيها السمك بكثرة أو بأنواع مختلفة».
وعملياً، لم تتوقف إسرائيل عن فرض قيودها الصارمة على حرية الصيد، فبعد الحرب الأخيرة سجلت أكثر من ألف حالة اعتداء على الصيادين وأكثر من ثمانين اعتقالاً، فضلاً عن تدمير عشرات مراكب الصيد واستشهاد نحو ثلاثة صيادين. ومن جانب آخر، فإن المواد الخاصة بترميم هذه المراكب يمنع دخولها إلى قطاع غزة بحجة إمكانية استخدامها لأغراض ترى إسرائيل أنها «إرهابية».
يشعر الصيادون بالاستياء من أن تحل المزارع السمكية محل البحر

هذه القيود والانتهاكات كانت من الأسباب التي أدت إلى نقص حاد في الثروة السمكية في قطاع غزة، وباتت تباع بسعر لا يعوض الصياد ثمن ما استهلكه من وقود في رحلته.
أنواع السمك قليلة في «الحسبة»، وهي مكان يتجمع فيها الصيادون بعد رحلة الصيد مع التجار والسماسرة. وكان من المعتاد أن يذهب الغزيون منذ السادسة صباحاً إلى حسبة السمك لاختيار الأنواع الجديدة والطازجة، لكن «الحسبة» اليوم شبه فارغة.
ومع انحسار الصيد البحري، صارت تنتشر بصورة ملحوظة المزارع السمكية على طول ساحل البحر. وهي أحواض كبيرة وعميقة، تستمد المياه من البحر عبر مولدات تضخ مياه البحر إليها.
وفي كل حوض مئات الأسماك من نوع واحد «سمك الدينيس»، أو يعرف بسمك «الدوراد».
مثلاً، يشتري صاحب المزرعة أبو سفيان كحيل، الذي يمتلك واحدة من أكبر المزارع السمكية في غزة، بيوض سمك الدينيس من إسرائيل بسعر لا يتجاوز نصف دولار لعنقود السمك الواحد. ومن نحو نصف مليون بيضة، لا يخرج منها سوى عشرين ألف سمكة. مزرعة كحيل تحتوي ما يقارب مئة ألف سمكة «دينيس»، فيما يباع السمك عندما يصل الى الحجم المناسب بما يعادل عشرة دولارات للكيلو الواحد.
مربح كبير يدخل على الرجل شهرياً واستشمار جديد بدأ ينطلق على الساحة. يقول: «هو صح مربح كبير بعود الي، لكن مش أي واحد بيعرف كيف يربي هاي العناقيد السمك بشكل منيح ويطلع هذا الإنتاج. هذا السمك بنربيه وبيتغذى على مواد معينة وبيحتاج لعناية كبيرة وفائقة». واختيار «الدينيس» لتربيته لم يأت من فراغ، فهو النوع المحبب والمطلوب شعبياً في غزة، كما لا يمكن اصطياده إلا بعد مسافة تتجاوز اثني عشر ميلاً بحرياً وهي منطقة محظورة الاقتراب على صيادي غزة.
عند تذوقك «الدينيس» الذي تم اصطياده من البحر مباشرة، وتذوقك النوع نفسه من المزارع السمكية، لا تجد أي فارق في الطعم تقريباً، وكذلك السعر لم يختلف. هذا الإنتاج الكبير في المزارع السمكية أدى إلى تعويض عشرين بالمئة من النقص الحاد.
في مزرعة أخرى على طول ساحل البحر، يوجد مطعم بسيط في تصميمه، وأمامك البحر مباشرة وبجانبك أحواض السمك الذي يربى في المزرعة. أخرج صاحب المزرعة سمكتي «دينيس» وبعض «الجمبري» ووضعها على طاولة مجاورة للحوض وبدأ الشاب بتنظيفها سريعاً، واضعاً عليها بعض التوابل، ثم شواها على الفحم. وبكل بساطة، قدمت الوجبة إلى العائلة التي تنتظرها، ويقولون إنهم لم يلحظوا أي فرق في الطعم، بل يظهرون استمتاعهم برؤية عملية الصيد والشوي أمامهم مباشرة.
صاحب هذه المزرعة، يدعى أبو فؤاد، يؤكد أنه نجح في تجربته الأولى لتفريخ بيوض سمك «الجمبري» كما نجح في سمك «الدينيس»، وأن هناك إقبالاً كبيراً من الغزيين المحبين للأسماك عموماً. ومع هذا الانتشار للمزارع السمكية، يشعر الصيادون بالاستياء من أن تحل محل البحر، فيما يشعر الناس بنوع من الرضى لوجود بديل في الوقت الحالي.